ترجمة مسيرة شيخ الشهداء الدكتور محمد معشوق الخزنوي
مقـدمـــــة
في سجلات التاريخ التي خطها الأبطال بدمائهم وأرواحهم، يتلألأ اسم الشهيد محمد معشوق الخزنوي كقائد فذّ ومفكر ثوري، لم يخشَ في الحق لومة لائم. إنه ليس مجرد سيرة لرجل دين وعلم، بل هو قصة نضالٍ متجذر، وصرخة حقٍّ دوّت في وجه الظلم، ورمزٌ للإرادة التي لا تلين. من قلب كردستان سوريا، انطلق هذا الشيخ الجليل، سليل عائلة الخزنوية العريقة، ليحمل على عاتقه هموم أمته، وليكون نبراسا يهتدي به الساعون إلى الحرية والعدالة. هذه المقالة ليست مجرد استعراض لمحطات حياته، بل هي دعوة للغوص في عمق فكره الثوري، وشجاعته النادرة، وتضحياته الجسام، التي جعلت منه شيخ الشهداء، أيقونةً خالدةً في ذاكرة الأجيال، ومصدر إلهام لكل من يؤمن بأن الحقوق لا تُوهب صدقة، بل تُنتزع بقوة الإيمان والعزيمة.
لقد كان الدكتور الخزنوي صوتا مدويا للحق، شق طريقه في زمنٍ ساد فيه الصمت، ورفض أن يكون شاهدا على الظلم، من مقاعد العلم الشرعي، انطلق إلى ميادين الدعوة والعمل الوطني، مسلحا بمنهجٍ إسلامي أصيل يدعو إلى التجديد والعدل، ومؤمنا بأن الدين هو أساس كل نهضة حقيقية.
هذه السيرة تكشف لنا كيف تحول رجل العلم إلى قائد ثوري، وكيف أصبحت حياته مثالاً حيا للتضحية من أجل المبادئ السامية، إنها قصة مقاومة لا تعرف اليأس، وإيمان راسخ بأن النصر حليف المظلومين، وأن دماء الشهداء هي وقود الثورات التي تصنع التاريخ، فلنتتبع معا فصول هذه القصة الملهمة، من نشأته العلمية والدينية، مرورا بمسيرته الدعوية والوطنية، وصولًا إلى لحظة استشهاده التي هزت وجدان شعب بأكمله، وبقيت صدىً لصرخة الحق التي أطلقها .
النشأة والمسيرة العلمية والدعوية
ولد الشهيد محمد معشوق الخزنوي، نجل الشيخ عز الدين وحفيد الشيخ أحمد الخزنوي (رحمهم الله)، في الخامس والعشرين من يناير عام 1957 بقرية تل معروف، التابعة لمدينة القامشلي في كردستان سوريا، نشأ وترعرع في بيئته الأصيلة، حيث تلقى مبادئ العلوم الشرعية على يد نخبة من أهل العلم، كان في مقدمتهم والده الجليل.
بالتوازي مع دراسته النظامية في مدارس الدولة، التي حصل منها على الشهادة الإعدادية عام 1974 والشهادة الثانوية (الفرع الأدبي) عام 1977، التحق الشهيد بالمعهد الشرعي الذي أسسه جده في القرية، مستفيدا من منهجه التعليمي العميق.
تأكيدا لتميزه الأكاديمي وتفوقه، انتسب إلى معهد إسعاف طلاب العلوم الشرعية بباب الجابية في دمشق، المعروف آنذاك بمعهد الأمينية، قُبل في السنة الأخيرة بفضل نبوغه، ونال شهادته بتقدير امتياز عام 1978. هذا الإنجاز المتميز رشحه لاستكمال دراساته العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث تكللت جهوده بالحصول على درجة الليسانس في الشريعة الإسلامية عام 1984.
بعد تخرجه، كرس الشيخ معشوق الخزنوي جهده في مجال الدعوة، فعمل مدرسا وخطيبا في المساجد والمعاهد الشرعية في مناطق متعددة من سوريا، ورغم أن هذا العمل الدعوي استغرق جل وقته، مما أخر استكماله لدراساته العليا، إلا أنه استدرك ذلك في وقت لاحق، فقد نال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية عام 2001 عن أطروحته القيمة “الأمن المعيشي في الإسلام”. كما حصل على درجة الدكتوراه أيضا في الدراسات الإسلامية عن أطروحته المتميزة “التقليد وأثره في الفتن المذهبية “.
التقليد وأثره في الفتن المذهبية
جذور الشيخ الشهيد: إرث عائلة الخزنوي الديني والوطني
الشهيد سليل عائلة كوردية تعرف بالخزنوية نسبة إلى الجد الشيخ أحمد الخزنوي الذي كان يمارس دعوته انطلاقا من قرية خزنة التي نسب إليها فيما بعد وكان قد أخذ تعاليمه الدينية وخلافته للطريقة الصوفية /النقشبندية / من الشيخ (حضرت) من إقليم سرحد بكوردستان الشمالية ولذلك غدت العائلة من أهم المرجعيات الدينية إن لم تكن أهمها في كوردستان والمنطقة بل إمتد نفوذها إلى شتى البلدان التي هاجر إليها الكورد والبلدان الأوربية ، توفي الشيخ أحمد سنة 1950م في تل معروف ودفن فيها بناء على وصيته، عاش رحمه الله حياته زاهدا متعففا مع إنه كان قد هيأ كل الإمكانيات المادية الازمة للدعوة مسخرا أهله وأصحابه في ذلك حتى لا يكون الداعية عالة على أحد في دعوته وبالتالي حتى يحافظ على استقلاليته.
وقد قضى جل حياته وهو يدعو إلى الدين والأخلاق والفضيلة والإصلاح وإليه يعود الفضل في إنتشار العلم والدين والخلق الكريم في ربوع البلاد وعدم نمو الأفكار التكفيرية المتشددة الأمر الذي منحه مكانة عظيمة بين السكان عموما والكورد منهم خصوصا وذلك في حياته وبعد مماته وترجح بعض المصادر الكوردية علاقته وانتمائه الى جمعية خويبون لإستقلال كوردستان التي تأسست بعد قضاء السفاح كمال أتاتورك على ثورة الشيخ سعيد النقشبندي وأعدم رجالاته.
كما يؤكد شهود عيان قوله الشهير (لا تغالوا في فرحكم برحيل المحتل الفرنسي المسيحي وقدوم المسلم العربي فسيأتي الوقت الذي تأسفون على رحيل الأول عندما تشاهدون غطرسة وظلم الثاني ).
وتابع أبناؤه محمد معصوم وعلاء الدين وعز الدين رحمهم الله طريقته النقشبندية وفي عام 1963م رفض الشيخ عز الدين الخزنوي تكفير المرحوم ملا مصطفى البارزاني حين أرسلت السلطات البعثية السورية لواء اليرموك بقيادة الضابط فهد الشاعر لمؤازرة البعثيين العراقيين في حربهم ضد ثورة أيلول الكوردية العظمى في جنوب كوردستان ولم يرضخ للتهديدات الأمنية مما أدى بهم إلى حبسه أربعين يوما على ذمة التحقيق في دمشق.
ولتوجس السلطات القومية العروبية من المشيخة النقشبندية الكوردية فقد ورد في الفقرة السادسة من مقدمات ضابط الأمن سيء السيط محمد طلب هلال ما يلي (نزع الصفة الدينية عن مشايخ الدين الأكراد وإرسال مشايخ بخطة مرسومة عربا أقحاحا أو نقلهم إلى الداخل بدلا من غيرهم لأن مجالسهم ليست مجالس دينية أبدا بل وبدقة العبارة مجالس كوردية فهم لدى دعوتنا لهم لا يرسلون برقيات ضد البرزاني إنما يرسلون ضد سفك دماء المسلمين وأي قول هذا القول.


منهج الشيخ الشهيد
كان الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي طالب علم وباحثا في الدراسات الاسلامية ويهتم بقضايا تصفية العقيدة مما شابها ، واحياء سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام في العقيدة والعبادة والسلوك وترسيخ مفهوم ان الدين قد اكمله الله تعالى وأتمه بالنبي الخاتم ولذلك فهو توقيفي لا يزاد ولا ينقص بل الزائد فيه اخو الناقص ولذلك فالابتداع في الدين ضلالة .
كما ان الشهيد كان يعمل بجد ونشاط في مجال التجديد ودراساته مع بعض الاخوة في الله وهو لا يفهم التجديد إنشاء وإحداث وتشريع جديد للامة بمقدار ما يفهمه إعادة القديم إلى جدته والحالة التي كان عليها قديما بعيدا عما الصقه الناس به ، اللهم الا في ما يستجد في حياة الامة من امور لم يشرع الشارع احكاما تفصيلية فحينئذ يحدث للامة ما تحتاج اليه من احكام استنباطا من كتاب الله وسنة رسوله.
والشيخ الشهيد لم يكن له ثمة موقف مسبق من أي مصطلح تستعمله الامة او بعض افرادها حتى ينظر فيما يعنون به ويقصدون مع الوقوف من الوسائل المستعملة للحصول على ما يرسمون من غايات وعلى هذا الاساس يحدد موقفه من الصوفية و غيرها فان كان التصوف سلوكا وأخلاقا وتربية مضبوطا كل ذلك بضوابط الشرع فمرحبا بهذا التصوف وإن كان التصوف وكما نشاهده تعظيما للقبور وطوافا بها واستغاثة بعظام رمت هي أحوج إلى الأحياء من حاجة الأحياء إليها فالشيخ يبرأ إلى الله ويتبرأ منها ومن أتباعها مع عدم يأسه من رحمة الله في هدايته إياهم.
ولذلك يبقى على قنوات الحوار مفتوحة معهم كما مع غيرهم من أتباع الطوائف والمذاهب التي تنتسب إلى الإسلام بل مع أبناء الديانات الأخرى التي تعيش معنا على هذه الأرض .
كان الشهيد يفرق بين طالب العلم وغيره ولذلك هو يرى أن ذمة العامي تبرأ باتباع رأي احد من أهل العلم وخاصة أئمة المذاهب الأربعة الذين دون فقههم وضبط بضوابطه كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ولكنه في الوقت نفسه لا يجوز ذلك لطالب العلم الذي بإمكانه تتبع الأدلة مستمدا دليله من قول الشافعي رحمه الله (إذا رأيتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط) .
كما كان الشهيد يؤمن بأن الشارع الحكيم، الذي حث على الغاية، قد رسم الطريق بوضوح، أو على الأقل حدد المعالم ووضع الضوابط والخطوط الحمراء. فالله تعالى لم يجعل شقاء أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليهم، ناهيك عن عبادة الأشخاص وتقديسهم، والاستغاثة بالأموات والاستعانة بهم، واستعباد الأحياء واستغلالهم بعد تخديرهم، حتى بات الكثير من أعدائنا يتهمون ديننا بأنه “أفيون الشعوب”.
أنشطة وانجازات الشيخ الشهيد
عمل الشهيد خطيبا في بعض جوامع قامشلو ونظرا لنهجه الاسلامي الحقيقي نهج الساكت عن الحق شيطان اخرس – نهج قل الحق وان كان مرا ولا تخش في الله لومة لائم – نهج كلكم لادم وادم من تراب لافرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى , فقد تصدى لكل المظالم والانتهاكات السلطوية في خطبه وقام بفضحها وتعريتها فقامت سلطات البعث في سوريا بمنعه من القاء خطب الجمعة بعد عمليات نقل تعسفية في محاولة لتضيق الخناق ، فنقل مسجد الى اخر فانتقل من جامع قاسمو الى صلاح الدين الى سلمان الفارسي الى جامع البر مطاردا من قبل الجهات الامنية التي لم يكن يروق لها دعوته الى تطبيق الحق والعدل ورفع الغبن عن المظلومين وكذلك نقده اللاذع للمسؤولين الحكوميين وتهجمه عليهم.
كما شارك في الكثير من الندوات والاجتماعات الاسلامية في داخل سوريا وخارجها وعلى الفضائيات الكوردية والعربية واقام علاقات طيبة مع المنظمات الدولية والاوروبية الحقوقية والدينية ولأجل احلال حوار الاديان والحضارات محل صراعها وفي كل تلك الندوات واللقاءات كان يستغل الفرصة لشرح قضية شعبه الكوردي وامته المجزأة المضطهدة.
وموقفه السلبي من التكفيريين والانتحاريين قاتلي الاطفال والنساء والشيوخ المدنيين وتصديه لهم بالفتاوى والحجج الدامغة اثر كبير وهذا ما ادى الى احترام الهيئات والمنظمات الدولية له ولمبادئه الاسلامية السمحة التي تبرز وجه ديننا الحنيف المشرق وبالعكس ادت مواقفه تلك الى حقد وكراهية المنظمات التكفيرية ومن يدور في فلكهم ويستفيد من ارهابهم وتخريبهم له ولمدرسته الاسلامية الانسانية الكوردايتيه التي كان يبشر بها ويدعو الى اسلام كوردي خال من القتل والقمع والارهاب وسلب الحقوق ونهب خيرات الاخرين.
اصدر كتابا بعنوان ومضات في ظلال التوحيد حظرته السلطات بعد نشره اول مرة وقامت بتجميعه من المكتبات لانه كتب فيها انه من عائلة من كوردستان.
وكان الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي قبيل استشهاده :
1- يدير مركز احياء السنة للدراسات الاسلامية الذي أسسه في قامشلو كمجمع لنشاطاته الدعوية الاصلاحية العلمية والإجتماعية والصحية والوطنية
2- خطيبا في جامع البر الاسلامي في قامشلو
3- عضو مجلس امناء القدس ببيروت
4- عضو مجلس امناء الدراسات الاسلامية بدمشق
5- عضو اللجنة السورية للعمل الاسلامي- المسيحي المشترك
6- عضوا مؤسسا لرابطة الكتاب التجديديين
7- عضو لجنة حقوق الانسان الكوردية ماف
8- عضو اتحاد المثقفين الكورد .
الانعطافة الكبرى
يوم الثاني عشر من اذار 2004 كان يوم التحول الكبير في حياة ونضال الشهيد معشوق الخزنوي كما كل ابناء شعبه في كوردستان سوريا حينما راى الدماء الكوردية تراق والارواح الكوردية تزهق فقط لانها كوردية وشاهد ذئاب العنصرية تكشر عن انيابها المدماة بكل حقد وعنجهية معادية قيم الاسلام والانسانية فاحس بالواجب الثقيل الملقى على عاتقه لانجاد هؤلاء المظلومين من ابناء جلدته ( فالاقربون اولى بالمعروف) و( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ونهجه وقيمه وروحه القومية الوثابة ابت ان يقف ساكتا وأن يتخذ موقف المتفرج فانخرط في كل النشاطات السياسية الكوردية وحول منزله الى ملتقى لاعضاء السفارات الغربية مع قيادات الحركة الكوردية لشرح قضية الشعب الكوردي العادلة والاضطهاد والحرمان الذين يعاني منهما هذا الشعب الابي على ايدي سلطات خرقت كل القوانين والاعراف الدولية فتعرض لاستجوابات ومضايقات امنية أشهرها يوم في 12/3 /2005 في الذكرى السنوية الاولى لشهداء الانتفاضة المباركة حيث احتجز منعا للمشاركة في حفل التابين الذي اقامه حزب يكيتي الكوردي وبمشاركة حركة الشباب الكوردTCK على مقبرة قدوربك لكنه خرج بمعنويات اعلى وثورية اكبر في نوروز ذلك العام خاطب الجماهير الكوردية على جميع مسارح الفرق الفولكلورية داعيا الى الوحدة والتكاتف والنضال العملي وداعيا علماء الدين الى التضامن مع أبناء شعبهم المقهور والدفاع عنه ورآه واجبا دينيا قبل ان يكون واجبا قوميا وهذا ما كان يؤكد عليه في كل لقائاته الصحفية والتلفزيونية وبعدها بايام زار كل معتقلي الانتفاضة الذين اطلق سراحهم والقى كلمات ثناء ونضال ومقاومة في كل خيم التكريم وبشر بغد اكرم.
في ذكرى تأبين الشهيد فرهاد صبري، الذي ارتقى شهيدا تحت وطأة التعذيب، ألقى الشهيد الشيخ محمد معشوق الخزنوي خطبةً تاريخيةً مدوية، تجاوز صداها حدود الزمان والمكان، لتصبح منارةً للأجيال. في كلماته الخالدة، أعلن الشيخ رفضه القاطع لنسيان التضحيات، مؤكدًا: “لن نسمح بعد اليوم بأن تنسوا شهدائكم”. ودعا إلى تحويل الألم إلى أمل، والموت إلى حياة، مرددًا بقوة: “يجب أن نحول الموت إلى حياة”. كما رسخ مبدأً أساسيا في النضال، وهو أن الحقوق لا تُمنح كصدقة، بل تُنتزع بقوة الإرادة والعزيمة، قائلاً: “ان الحقوق لا يتصدق بها أحد إنما الحقوق تؤخذ بالقوة”.
لم يكتفِ الشيخ الشهيد بذلك، بل كان يشدد مرارا على أن عهد استعباد الأحرار وسلب حقوقهم قد ولى إلى غير رجعة. وأكد بثقة تامة أن هذا الشعب العظيم، الذي أنجب قامات شامخة كأحمد وغيفارا وإدريس ومحمد وفرهاد وسيوان، لا يستحق أن يعيش مكبلاً بقيود الذل والهوان. كانت خطبه بمثابة شرارة توقد جذوة الثورة في النفوس، وتدعو إلى اليقظة والصمود في وجه الظلم
فجرٌ مؤجل وليلٌ غادر: اختطاف الشيخ الشهيد
قبيل الفاجعة، وفي ليلة السابع عشر من نيسان، حيث كانت حركة الشباب الكرد تستعد لتظاهرة حاشدة احتجاجًا على انتهاك الحقوق الكردية الصارخ وغياب المحاسبة للمجرمين المسؤولين عن سفك دماء شبابنا ونهب ممتلكاتنا في الحسكة وسري كانيه، طلب الشيخ الشهيد من هيئة المتابعة والتنسيق في الحركة تأجيل تلك المسيرة. استجابت الحركة لطلبه إجلالا لمكانته، مشترطةً إقامتها في وقت قريب بالتعاون مع أطراف أخرى. ظل الشيخ وفيا لوعده، مؤكدًا لهم أنه معهم قلبا وقالبا، وأن النضال العملي وحده هو الكفيل باستعادة الحقوق المسلوبة. ووعد بالمشاركة في مسيرتهم المقررة في الثاني عشر من أيار 2005، حال انتهائه من أعماله في دمشق وعودته إلى القامشلي.
لكن يد الغدر امتدت في العاشر من أيار، حيث قامت عصابات الإجرام باختطافه، لتنقطع أخباره فجأة، مخلفةً وراءها صدمةً عميقةً وحزنًا لا يوصف. كان هذا العمل الإجرامي محل تنديد واستنكار واسع من الجماهير الكردية التي خرجت في حشود غاضبة يوم الحادي والعشرين من أيار في القامشلي، استجابةً لدعوة حزب يكيتي الكردي في سوريا وحركة الشباب الكرد، مطالبةً بالكشف عن مصيره، إلا أن السلطات قابلت هذه المطالب المشروعة بصمت مطبق وتجاهل مؤلم، غير مبالية بوجع شعبٍ فقد أحد أبرز قادته
في الثلاثين من الشهر ذاته، خرج أكثر من ألف شخص في دمشق، يمثلون كافة الأحزاب والمنظمات الكردية والعربية في سوريا، مطالبين بالكشف عن مصير الشيخ الشهيد. إلا أن السلطات واجهت هذه التظاهرة السلمية بعنف وهمجية مفرطة.
بعد ذلك، انتشر خبر استشهاد الشيخ محمد معشوق الخزنوي بين الجماهير الكردية كالنار في الهشيم في الأول من حزيران. وفي غضون ساعات قليلة، تجمع أكثر من نصف مليون كردي عند مدخل القامشلي وصولًا إلى دوار زوري، في انتفاضة ثانية عارمة. حملت هذه الحشود الغاضبة الجنازة الشريفة في لجة من الحزن والغضب العارم إلى مسجده، ثم إلى مقبرة قدوربك، ليوارى الثرى جسده الطاهر الذي كان قد تعرض للضرب والتعذيب، لكن إرادة روحه الصلبة المشبعة بالإيمان ظلت عصية على القهر.
ظلت خيمة العزاء مفتوحة أمام المعزين لثلاثة أيام متتالية، وتحولت إلى منبر للتنديد والاستنكار بالجريمة النكراء، وتجديد العهد بالوفاء للشيخ الشهيد وقيمه الكريمة من قبل عشرات الآلاف من الكرد الذين كانوا يؤمونها يوميا.
تداعيات الاستشهاد وفعاليات التأبين
في الخامس من حزيران، قرر حزبا يكيتي وآزادي تنظيم مظاهرة سلمية حاشدة، احتجاجًا على اختطاف واغتيال الشيخ الشهيد، ومطالبةً بالكشف عن الجناة الحقيقيين وإجراء تحقيق نزيه في القضية. وقد لاقت هذه الدعوة استجابة واسعة من بعض المنظمات الكردية المستقلة وأكثر من خمسين ألف شخص. ورغم الطابع السلمي والحضاري للمظاهرة، إلا أن السلطات لجأت إلى استخدام العنف المفرط، بإطلاق النار والضرب والاعتقال، بالإضافة إلى سلب ممتلكات الكرد ومحلاتهم في سوق القامشلي الذي طوقته القوى الأمنية. أسفرت هذه الحملة عن اعتقال أكثر من خمسين شابًا، تم إيداعهم السجن لمدة شهرين، بينما كان قد تم اعتقال اثني عشر شابًا قبلهم وأُطلق سراحهم بكفالة.
وفي ذكرى أربعينية الشيخ الشهيد، أقام مكتبه حفل تأبين لائقًا، حضره ممثلون عن أحزاب يكيتي وآزادي والوفاق وPYD، بالإضافة إلى تيار المستقبل وحركة الشباب الكرد، وعدد من الكتاب والشعراء الكرد. وقد تخلل الحفل عرض شريط وثائقي يسلط الضوء على حياة الفقيد ونضاله الحافل
أهمية ودور شيخ الشهداء في النضال الكردي
برزت الأهمية المحورية ودور الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي من خلال عدة جوانب رئيسية:
استكمال رسالة الانتفاضة: سعى الشيخ الشهيد إلى تتويج رسالة الانتفاضة الكردية، ووضع حدٍّ لعصور الانحطاط والتخاذل والتخفي التي طال أمدها، مبشرًا بفجر جديد من الكرامة والصمود.
تأسيس مرحلة نضالية جديدة: عمل جاهدًا على بناء مرحلة جديدة في تاريخ النضال الكردي في كردستان سوريا، محاولًا إعادة تفعيل دور علماء الدين في هذا الكفاح العادل، مستلهمًا من مسيرة قامات وطنية ودينية كبرى أمثال الشيخ عبيد الله النهري، وعبد السلام البارزاني، ومحمود الحفيد، وسعيد بيران، وغيرهم.
تجاوب شعبي استثنائي: حظي الشيخ بتجاوب هائل وسريع من الشارع الكردي، الذي منحه ثقة مطلقة لا يرقى إليها الشك، مما عكس عمق تأثيره وقدرته على لمس وجدان الجماهير.
شجاعة فريدة وإدراك عميق: تميز بشجاعة منقطعة النظير، وإدراك تام للنفسية الاجتماعية للشعب الكردي في سوريا. كما أجاد طرق أبواب العالم المعاصر في توقيت مناسب، ودقيق، وحساس، ليعرض قضية شعبه العادلة.
الخاتمة: إرث الشيخ الشهيد الخالد
لقد كانت خطوات الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي الناجعة إيذانًا ببدء العد التنازلي لحياة رجلٍ أصبح من مجددي القرن الحالي. ورغم توجيه عدة إنذارات له، إلا أنه لم يكن يلتفت إلى التهديدات، وكأنه يردد مقولة الإمام علي كرم الله وجهه: “الخوف لا يرهب غير القلب الفاسد”.
لقد ترك الشيخ الشهيد إرثًا عظيمًا ومدرسة نضالية لا تعرف الهوادة في سبيل الحقوق القومية المشروعة، تجسدت في صفوف الشباب الكردي، ويتقدمهم أبناؤه المناضلون الدكتور مرشد والشيخ محمد مراد. هؤلاء الأبناء الأوفياء وضعوا مصلحة الشعب وقضيته فوق كل المصالح والاعتبارات الأخرى، منطلقين من مبدأه الراسخ: “الحقوق لا توهب صدقة بل تؤخذ بالقوة”. إنهم يسيرون على نهجه المنبثق من الإيمان القوي بعدالة وأحقية القضية الكردية، وبانتصار الحق والعدل في النهاية، مهما قويت شوكة الظالمين والحاقدين.
رحم الله شيخ الشهداء، وجعله في أعلى عليين، في مقام كريم يليق بتضحياته وعطائه
المقالات المشابهة
فيلم وثائقي عن مسيرة شيخ الشهداء معشوق الخزنوي