هنا ندخل شهر الخير والبركة والتوبة والصبر والقرآن والعطاء والجهاد والحسنات، يدخل المسلمون في هذا الشهر الكريم كلٌ بحسب فهمه وإدراكه لحقيقة هذا الشهر.
ومعلوم أننا في هذا الشهر الكريم نقوم بركن من أركان ديننا العظيم إلا وهو الصيام ، والذي ينبغي علينا إتقانه وتأديته على الوجه الصحيح وبشكل تام، وسبق أن تحدثنا في اللقاءات الماضية عن فلسفة الصيام وشروطه وأركانه ، وتستوقفنا هنا نقطة هامة كثر الجدال والنقاش فيها ، وهي تتعلق بتلك الدول التي يطول النهار فيه بشكل غير منطقي كالدول الاسكندنافية حيث يصل طول النهار الى 19 او 20 او 21 ساعة ، لذلك تكون حلقة اليوم موجهة الى النرويج والسويد وعموم الدول الاسكندنافية .
فالله سبحانه بين لنا وقت الإمساك عن الطعام وسائر المفطرات في الصيام، وكذلك وقت الإفطار، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة من الآية:187]، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الليل كله {حتى يَتَبَيَّنَ} أي يظهر {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره” (تفسير الآلوسي).
لذلك فإن وقت بداية الإمساك عن سائر المفطرات والبدء بالصيام هو طلوع الفجر الصادق ودخول وقت صلاة الفجر، أما وقت الإفطار فهو عند غروب الشمس ودخول وقت صلاة المغرب، وهذه مواقيت ثابتة بنص القرآن والسنة الصحيحة .
وهذا هو المفهوم من الآية القرآنية الكريمة ، لكننا إذا جئنا الى تطبيقها على الواقع نكتشف أن الليل والنهار في العالم له ثلاثة احوال حسب القرب والبعد عن خطوط العرض .
فمن المعلوم أن عبادة الصيام ترتبط بحركة كوكبين هما :
1- حركة القمر لتحديد بداية شهر الصوم ونهايته.
2- حركة الشمس لتحديد وقت الإمساك ووقت الإفطار.
ولتحديد وقت الإمساك والإفطار لا بد من معرفة المكان ومعرفة خط عرضه وطوله ، فالليل والنهار يختلفان في كوكب الأرض بحسب موقعه من خط الاستواء ، فهما أقرب إلى التساوي في الأماكن القريبة من خط الاستواء، وهما أكثر اختلافاً كلما اتجهنا نحو القطبين ، كما أن لموقع الشمس أثراً كبيراً في هذا الاختلاف بين الصيف والشتاء.
لذلك يمكننا تقسيم الارض بحسب خطوط العرض الى ثلاثة مناطق :
المنطقة الأولى: وهي التي تقع ما بين خطي العرض (45º) درجة و(48º) درجة شمالاً وجنوباً، وتتميز فيه العلامات الظاهرة للأوقات في أربع وعشرين ساعة طالت الأوقات أو قصرت.
المنطقة الثانية: وتقع ما بين خطي عرض (48ºْ) درجة و(66º) درجة شمالاً وجنوباً، وتنعدم فيها بعض العلامات الفلكية للأوقات في عدد من أيام السنة، كأن لا يغيب الشفق الذي به يبتديء العشاء وتمتد نهاية وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر.
المنطقة الثالثة: وتقع فوق خط عرض (66ºْ) درجة شمالاً وجنوباً إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الظاهرة للأوقات في فترة طويلة من السنة نهاراً أو ليلاً.
أما بخصوص المنطقة الأولى وهي التي تقع ما بين خطي العرض (45º) درجة و(48º) درجة فلا خلاف في المسألة بين العلماء وأن حكم الآية نافذ ولا إشكال فيه ، من أنهم يمسكون من طلوع الفجر الى غروب الشمس .
وأما بخصوص المنطقة الثالثة وهي التي وتقع فوق خط عرض (66ºْ) درجة شمالاً وجنوباً إلى القطبين وهي التي تقع في شمال النرويج والسويد وبعض المناطق في روسيا وسبيريا حيث يطول النهار اشهر والليل أشهر فالعلماء أيضا متفقون على أنه لا يمكن نفاذ منطوق الآية ولكن يجزئهم التقدير عملا بما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه حين قص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم من خبر الدجّال، قلنا: يا رسولَ اللهِ وما لبْثُه في الأرض؟ قال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، قلنا: يا رسولَ اللهِ فذلك اليومُ الذي كَسَنَةٍ أتَكْفينا فيه صلاةُ يوم؟ قال: «لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ».
فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوماً واحداً يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتباراً بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم
ويقرر الشيخ ابن تيمية الحنبلي أن المواقيت المذكورة في الشرع إنما هي واردة على الأيام المعتادة، فيقول في ((مختصر الفتاوى المصرية 1/ 38، ط. دار ابن القيم)): “والمواقيت التي علّمها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته حين بيَّن مواقيت الصلاة، وهي التي ذكرها العلماء في كتبهم: هي في الأيام المعتادة، فأما ذلك اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يومٌ كسَنَةٍ» قال: «اقدروا له قدره» فله حكم آخر”.
يبقى الخلاف واقع بين العلماء على كيفية التقدير هل هو الى مكة او المدينة ام الى اقرب دولة معتدلة أو الى اقرب دولة اسلامية وهكذا إلا أنهم جميعا متفقون على عدم نفاذ الآية والعمل بالتقدير .
تبقى المنطقة الثانية وهي المنطقة الواقع ما بين خطي عرض (48ºْ) درجة و(66º) كمدينة اوسلو واستوكهولم وعموم الدنمارك ، وهي محل الإشكال حيث يطول النهار في بعض أشهر السنة وفي بعضها الآخر يطول الليل وهو الذي اوقع الخلاف بين العلماء هل تلحق هذه المنطق بالمنطق الأولى ، أم بالمنطقة الثالثة ، فريقان .
الفريق الأول :
حيث الحقها بالمنطقة الأولى حيث افتوا بوجوب الصيام على أهل تلك البلاد ما دام هناك غروب وشروق، وتبين الفرق بين الليل والنهار، ومن لم يستطع ذلك أو خاف على نفسه من الضرر الصحي المحقق أو من الأذى والهلاك، أفطر شرط أن يقضي ما في ذمته من صيام في أي وقت من أوقات السنة ، مستدلين بقول الله تعالى: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا” [البقرة: 286] .
وأشهر القائلين بذلك هو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وعامة علماء السعودية والخليج، وبعض علماء المدرسة السلفية.
فقد اعتمدته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بالقرار رقم 61 وتاريخ 12/4/1398هـ في الدورة الثانية عشر .
وأيده قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي رقم (3) في الدورة الخامسة للمجلس بتاريخ 10 ربيع الثاني 1402 هـ الموافق لـ 4 فبراير 1982 م .
واعتمده مجلس الإفتاء الأوربي المحسوب على هيئة الاخوان المسلمون العالمية في الدورة الثانية عشرة المنعقدة في مقر المجلس بدبلن / أيرلندة الموافق لـ 31 ديسمبر 2003م إلى 4 يناير 2004 م
الفريق الثاني :
بينما ذهب الفريق الاخر بإلحاقها بالمنطقة الثالثة ، بجواز صلاتهم وصيامهم بتوقيت مكة أو أقرب بلاد إسلامية، وافتت به دار الإفتاء المصرية وهيئة علماء المسلمين في كردستان ، وهو قول معظم الذين تولوا مشيخة الأزهر، ومجلس شورى المسلمين في النرويج .
وانطلقت الفتوى من قاعدة عند الأصوليين خلاصتها: أن الصورة النادرة الشاذة لا تدخل فى العموم، كما قررها كثير من اهل العلم ، فقد قال العلامة عبد الحميد الشرواني في حاشيته على ((تحفة المحتاج لابن حجر (4/ 273، ط. المكتبة التجارية الكبرى)): “ألفاظ الشارع إذا وردت منه تُحمَل على الغالب فيه، والأمور النادرة لا تُحمَل عليها” اهـ.
و يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في ((فتح الباري 2/ 62، ط. دار المعرفة)): “الكلام إنما هو جار على الغالب المعتاد وأما الصورة النادرة فليست مقصودة” اهـ بتصرف.
وهذا يعنى أن نهار أوربا الطويل صيفاً لا يدخل فى عموم قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وعلينا أن نجتهد للنازلة وهو ما انتهت إليه الفتوى بالتقدير على مكة.
كما عللوا ان هذه المنطقة تشترك مع المنطقة الثالثة من حيث حالة أيام الدجّال، وهي حالة اختفاء للمواقيت، لتحقق العلة في كلٍّ، وهي عدم انضباط الأسباب المعتادة التي أناط بها الشرع العبادة، فكما أنه حاصل في الاختفاء فإنه حاصل أيضًا في الاختلال:
ويقول العلّامة الشيخ مصطفى الزرقا في كتابه ((العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ص: 124، ط. دار القلم)): الأحاديث النبوية الواردة يجب أن يُفتَرَض أنها مبنية على الوضع الجغرافي والفلكي في شبه الجزيرة العربية، وليس بجميع الكرة الأرضية التي كان معظمها من برّ وبحر مجهولًا إذ ذاك لا يعرف عنه شيء، بل إن هذه الأماكن القاصية والمجهولة شمالًا وجنوبًا -مما اكتُشِفَ فيما بعد- يجب أن تعتبر مسكوتًا عن حكم أوقات الصلاة والصيام فيها، فهي خاضعة بعد ذلك للاجتهاد بما يتفق مع مقاصد الشريعة” اهـ بتصرف يسير.
“فإذا قيل: كيف تسمح لأناس في رمضان أن يفطروا والشمس طالعة وإن كانت لا تغيب إلا نصف ساعة أو ساعة؟
قلنا: هذا سيلزمكم في البلاد التي ليلُها ستة أشهر ونهارها ستة أشهر، فإنكم وافقتم على أنهم يفطرون في نهارهم الممتد في الوقت الذي حددتموه لهم رغم أن الشمس طالعة، فهذا لا يضر، بسبب الضرورة. والمهم في الموضوع: رعاية مقاصد الشريعة في توزيع الصلوات، وفي مدة الصوم بصورة لا يكون فيها تكليف ما لا يطاق، ويتحقق فيها المقصود الشرعي دون انتقاص” ((العقل والفقه في فهم الحديث النبوي: ص: 124))اهـ.
وفي فتوى الأزهر الشريف جواباً على الطلب المرقم برقم 1256 لسنة 2009م تفضيل كل ذلك ،بجواز صيام المقيمين في جنوبي النرويج والسويد حسب مواقيت أم القرى ، وكان اول اصدار لهذه الفتوى من قبل لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بتاريخ 24/4/1983 م ، وقد ايدت هذه الفتوى من قبل مجامع علمية وعلماء قديما وحديثاً ، منهم :
أول مَن تولَّى منصب "مفتي الديار المصرية" فضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله.
- فضيلة الشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق “مفتي الديار المصرية” ((فتوى رقم 214 لسنة 1981م))
فضيلة الشيخ عبد اللطيف حمزة "مفتي الديار المصرية" ((فتوى رقم 160 لسنة 1984م))
- فضيلة الشيخ الإمام الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي “مفتي الديار المصرية” ((فتوى رقم 171 لسنة 1993م، ورقم 579 لسنة 1995م))
شيخ الجامع الازهر ، وأول من حمل لقب الإمام الاكبر الامام الشيخ محمود شلتوت
- فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ نصر فريد واصل “مفتي الديار المصرية” ((فتوى رقم 438 لسنة 1998م))
فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية عن لجنة الفتوى بالأزهر الصادر بتاريخ 24/ 4/ 1983م
- فضيلة الشيخ العلّامة مصطفى الزرقا ، من أبرز علماء الفقه في العصر الحديث
فضيلة الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية
- وهو المعتمد من قبل دائرة الافتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتوقيع المفتي العامّ فضيلة الشيخ محمد عبده هاشم بتاريخ 19/ 9/ 1399هـ
وهو الذي اختاره هيئة علماء المسلمين الكرد في دهوك في كردستان
وهذا هو الذي نراه أوفق لمقاصد الشرع الكلية، وأرفق بمصالح الخلق المرعية في مجلس مسلمين الكرد في النرويج
والله سبحانه وتعالى أعلم
المقالات المشابهة
آلدار خليل والنقشبندية والبارزانية والديمقراطي الكردستاني
لماذا استهداف شيخ الشهداء بالذات – الدكتور مرشد معشوق الخزنوي
عليكو معاتبا وهو عتاب محق – الدكتور مرشد معشوق الخزنوي