Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

في مستهل العام الهجري – خطبة لشيخ الشهداء الدكتور معشوق الخزنوي

خطبة لشيخ الشهداء الدكتور معشوق الخزنوي

خطبة جمعة في جامع صلاح الدين الأيوبي  بقامشلو

تفريغ : عبد الرحمن احمد

مراجعة القسم العلمي بمركز احياء السنة للدراسات الاسلامية ( مكتب الشهيد الخزنوي )

سلسلة الهجرة الرقم 1

ها هو عام هجري قد انقضى من عمر الإنسان المحتوم ، وها هي صحيفة سودت من كتابه المرقوم ، وهاهو فصل قد انتهى من رواية الحياة ، ونحن الآن على باب عام جديد ، وفي ابتداء صحيفة جديدة، وفي طليعة فصل آخر من تلك الرواية التي يمثلها الإنسان على مسرح الدنيا ، ولا ادري ماذا يكون شأنكم مع الله فيه ، بل لا أدري ما يفعل بي وبكم .

 

ولو تأملتم معي قليلاً لعلمتم أن في مثل هذا اليوم من العام الماضي كان معكم في هذا المسجد أناس يصلون ، وبجواركم في البيت أناس يسكنون ، وإلى جانبكم في المزرعة يعملون ، أو معكم في السوق يتحركون ، وكانت لهم آمال كآمالكم، وأحلام كأحلامكم ، ولكن وقف القضاء دون تحقيقها ، وحال القدر بينهم وبين وما يشتهون، وهجم عليهم الموت بغتة وهم لا يشعرون، وهم الآن رهن أعمالهم تحت التراب ينتظرون الحساب والمصير ، ولا يبعد أن يكون في مثل هذا اليوم من العام المقبل من تفتك به المنية منا وتغتاله ريب المنون ، فلسنا بأعظم من أولئك الراحلين منصباً ولا جاهاً ، ولا أشد بأساً ولا قوة ، بل كلنا جميعاً أمام الموت سواء ، انه شواهد العظة والاذكار وآيات العبر قائمة ماثلة ، اسألوا التاريخ ماذا فعل الأجداد والآباء لقد عمروا الدنيا وشادوا فيها قصورهم ، وأقاموا فيها دعائم سلطانهم ثم جاءهم النذير وأطبق عليهم الموت .

 

أيها الإخوة : إن الإنسان في هذه الدنيا مسافر وعابر سبيل ، وما الزمن إلا سفينة يقطع الآدمي عليها لجة الحياة حتى توصله الى شاطئ الموت فإذا هو أثر بعد عين ، وما المناسبات والأيام إلا محطات على هذا الطريق وموانئ على هذا الشاطئ .

 

لا اقول إن المناسبات محطات استراحة فلا راحة في الدنيا ، إنها دار عمل وامتحان والجزاء والراحة في الآخرة ، إنما المناسبات محطات للمحاسبة والتصحيح والتقويم ، واليوم لن اتحدث عن عظمة هذه المناسبة ، مناسبة هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ولا عن ابعادها ونتاجها ، فلعل الله يحيينا إلى جمعة قادمة لنتحدث عن ذلك ، ولكن اقول اليوم أن هذه المناسبة بقدومها تذكرنا أن الايام مرت ، وأن الشهور والأعوام انصرمت ، وأن عجلة الزمن طوت عاماً كاملاً من حياتنا اقتطعته من اعمارنا ، وقربت به آجالنا ، فما احوجنا اليوم الى الوقوف قليلاً على مفترق الطرق نتأمل في الزمن ، فنحن نصرف الزمن ونفني العمر مقابل ماذا ؟، ما هو البديل الذي استلمناه حين انفقنا من الزمن ساعة؟ .

 

نحن تعلمنا في تجارتنا أن لا نعدم ليرة واحدة إلا وفق حسابات ، ومقابل ربح مادي أو معنوي نحققه ، فما هو الربح وما هي السلعة التي حصلنا عليها حين قدمنا ساعة من الزمن بل عاماً من عمرنا ؟ .

 

اقول هذا الكلام وملايين المسلمين يدخلون عامهم الجديد ، وأهمس في آذانكم هذه الخاطرة بهذه المناسبة لتتعلقوا من خلالها بدينكم الحنيف ، وتروا أنه الانجح في توجيهكم نحو البدل ، فما هو البدل في دينكم .

 

البدل أيها الإخوة في الإسلام هو العبودية ، خلقك الله وعليك أن تبذل من زمنك لتأخذ بدلاً عنه عبودية كاملة ، خلقك وكلفك أن تستغل زمنك من أجل تحقيق عبودية لله عز وجل ، بل لم يوجد زمنك إلا من أجل هذه الغاية كما قال الله تعالى ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ [ الذاريات : 56] ، وهي لفائدتك ايها الانسان ، فالعبودية نفعها يعود اليك ايها الانسان ، وبالتالي يكون الزمن في خدمتك انت ، في خدمة ذاتك ، ولذلك قال تعالى ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى *  وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *  ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى  ﴾ [ النجم : 39-41] ، وتأكيدا لذلك قال المولى في الحديث القدسي { يا عبادي إنما هي اعمالكم احصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد لله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلانفسه } رواه مسلم ، فالنتيجة لك إذاً ، ونفع العبودية سيؤل اليك في الدنيا استقراراً وفي الآخرة فوزاً ونجاحاً ، فهذا هو البدل مقابل الزمن في نظر المسلم .

 

والإسلام حين حض على الاستغلال الأكمل للزمن إنما كان من أجل هذا البدل فقال تعالى ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : 133 ]  ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [ الحديد : 21 ] ﴿  إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [ المطففين : 22-28 ] ، كل هذه الآيات من أجل أن تكون لدى العباد نزعة إلى استغلال الزمن حتى يعيشوا مسابقين لعصرهم حتى يعيشوا مطمئنين ، وحتى يحققوا العبودية كاملة عبر كل السلوكيات والأفعال والأقوال والأحوال .

 

أيها الإخوة : هذا هو البدل عن الزمن في الإسلام فما هو البدل عند الآخرين ، الناس يتسابقون على الزمن هذا صحيح ، والرهان على الزمن موجودة، والمسابقة من أجل استغلال الزمن موجودة ، ولكن ماذا مقابل الزمن ، هذا ما يجب أن نقف عنده في بداية سنتنا، ما الذي يضعه الآخرون  مقابل الزمن الذي يتسابقون على استغلاله .

 

إن العالم يتسابق اليوم فيما يسمى بالتقنيات ، إلا أن هذه التقنيات وإن كانت يسرت على الإنسان كثيراً من أعماله ، إلا أنها بقدر ذلك أبقت أعماله بدون هدف ، فالإنسان من خلال كل التقنيات التي اخترعها يبحث عن الراحة ، إلا أن الراحة ليست هدفاً إنما هي محطة فقط على الطريق ليوصل الإنسان بعد الراحة سيره وعمله ، الراحة ليست هدفاً للإنسان أبداً إنما هي وسيلة ، والإنسان حين يضع الراحة هدفاً له إنما يبقى أعماله من دون هدف ، وحين تبقى اعماله بلا هدف يتحول الى كائن انتهازي وأناني ومفترس ، ولذلك فكل التقنيات وإن أمنت راحة للبعض إلا انها بالمقابل زرعت في قلوب الآخرين خوفاً ورعباً ووجلاً ، وما الخوف الذي ينتاب العالم اليوم من جراء القنابل الذرية ، ومن جراء الأسلحة النووية أو الكيماوية والجرثومية إلا قبس من أثار هذا الضياع واللاهدف ، إن هذه الاسلحة موضوعات للمسابقة ، وموضوعات للمناقشة ، وموضوعات للتقنية في الشرق والغرب في المعسكرين الشرقي والغربي ، أناس سارعوا ، أناس استبقوا ، أناس حرصوا على الزمن ، إلا أنهم لم يصنعوا مقابل الزمن شيئاً ، لم يصنعوا مقابل الزمن هدفاً يحقق للإنسان الطمأنينة فضاع الانسان وضاعت اعماله وضاعت سلوكياته وأخلاقه وروحه وجسمه ، لأن التقنية ولأن الأسلحة لم تؤمن له الطمأنينة ، فالسوفيات بعد سبعين سنة من مصارعة الزمن ومسابقة الحياة اعترفوا بفشلهم لأنهم أخطأوا في تحديد الهدف ، أخطأوا في تعين البديل عن الزمن ، والأمريكان بعد كل هذه التقدمية وهذه الراحة لمواطنيها لم يحصدوا إلا قلقاً وضياعاً وزادت نسبة الجريمة والانتحار وتحول الانسان عن عواطفه ، لقد استغل رجال التقنية الزمن بكل ما أمكن ولكنهم ما زادوا الانسان إلا رعباً وخوفاً وقلقاً لأنهم جعلوه بلا هدف ، يعيش ليعيش، يعيش ليأكل لينام ليقضي شهوته ليشبع غريزته ثم لا شيء بعد ذلك،  وإن مات فعدم ابدي لأنه لا يعتقد بحياة اخرى ، وان اعتقد في بعض حالاته فلا يسلك السبل المؤدية اليها  .

 

أما الإسلام فقد جعل الإنسان في طمأنينة مستمرة في الحياة الدنيا والآخرة ، جعله سعيداً في هذه الحياة ثم إذا مات قال غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه ، إن انتقل من دنياه انتقل الى الطمأنينة في دار الخلود ، وإن عاش فترة في الدنيا عاش ليقدم الزمن مقابل أشياء تفيده وتطمئنه  .

 

خلاصة القول أيها الأخوة : الإسلام جاء في المستوى الإنساني الذي يقود المستوى المادي ، والآخرون صحيح أنهم تقدموا في المستوى المادي بعض الخطوات ، ولكن المستوى الانساني عندهم يتراجع ويضمر ويموت ولذلك نراهم يتطلعون إلى فكر يقودهم ، ولن يقودهم إلا الاسلام بمعطياته ، إلا الاسلام بآياته بقيمه بعطاءاته ، أنا لا اطرح الاسلام من أجل أن يكون في المستوى المادي في الميدان التقني ، ولكنني اطرحه في المستوى الانساني حيث لا مبدأ لا عقيدة ، حيث لا فكر حيث لا طمأنينة ، حيث الناس يتضوعون قلقاً تحت نير المستوى المادي ويتطلعون الى المستوى الإنساني في مجتمعاتهم ، فأنتم مدعوون اليوم وغداً وكل يوم من أجل أن تقدموا الاسلام في المستوى الانساني من خلال أعمالكم ، من خلال سعيكم ، من خلال استغلالكم للوقت .

 

فالى العمل والجد أيها الاخوة ، إياكم أن تلتفتوا ، إياكم أن تنظروا إلى غير ما ينفعكم في دنياكم وأخرتكم ، إلى العمل الذي يعمق العبودية في قلوبكم ، إلى العمل الذي يعمق تبعية المصطفى صلى الله عليه سلم في سلوككم ، إلى العمل الذي يعمق حب الله ورسوله بين جوانحكم.

 

وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه

About Author