الإمام علي وحقوق الإنسان
كلمة شيخ الشهداء الدكتور محمد معشوق الخزنوي
في مهرجان الإمام علي وحقوق الإنسان – المركز الثقافي بالمزة – دمشق
تفريغ قسم البحوث في مؤسسة الخزنوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وبعد أيها الأخوة الحضور : فيشرفني أن أقف بينكم في مهرجان الإمام علي وحقوق الإنسان ، ويعزو علي أن أرى هذه المعادلة عاجزة ، فربما الإمام علي أخذ جزء من حقه ، ولا أقول كل حقه ، ربما الإمام علي أخذ جزء من حقه ، بحيث أن واحداً مثلي مهما تحدث عن الإمام علي يشعر أنه لا يبلغ ذراه ، كما يقول قائلنا ، وكل أبناء الإسلام هم أبناؤنا ، ويتحدثون باسمنا فرساً كانوا ، أم عرباً أم غير ذلك ، يقول قائلنا :
هر چه هست از قامت ناساز بی اندام ماست
ور نه تشریف تو بر بالای کس کوتاه نیست (1)
[ الشيخ يشرح معنى البيت الشعري الفارسي ]
إن بردتك ، حليتك ، كسوتك التي تمن بها على الآخرين ، لن تأتي ناقصة ، تأتي وفق مقاساتهم ، لكن إن ظهر للعيان عيب في كسوتي أو مظهري ، فإنما هو من بدني .
وأي واحد منا يتحدث عن الإمام علي ، وشعرتم أنه ما أوفى الحديث حقه ، فليس هو إلا في المتكلم ، ليس النقص إلا في المتكلم ، يوم ينطبع في ذاكرتنا هذه الصورة عن الإمام علي ، أقول أنه قد أخذ جزء من حقه ، لكن مع الأسف إن عجز المعادلة ، وأعني به حقوق الإنسان فلم تأخذ ولا جزء من حقها ، علماً أن الإسلام بقرآنه ، وسنة نبيه فصل حقوق الإنسان تكريماً وإعزازاً وتحريراً ، وإذا كان للإنسان أن يرى القرآن متحدثاً ، ويرى القيم متجسدة في أشخاص ، فإن خير من يمثل قيم القرآن وتفاصيل حقوق الإنسان في شريعة الإسلام ، هو هذا العنوان الذي اخترناه الإمام علي ، وإنني لن أتحدث عن مسيرة الإمام علي الطويلة في خدمة الإنسان ، لكنني أحاول أن أنقل لكم بنوداً مختصرة بسيطة لتروا أن حقوق الإنسان ، هذا المصطلح الذي انتهكت حرمته ، هذا المصطلح الذي أصبح شعاراً مفزعاً ، بل سلاحاً في وجه الضعفاء والمساكين ، هذا المصطلح الذي بدأ الناس يتاجرون به في أيامهم الأخيرة ، نحن رفعنا راية هذا المصطلح قبل أكثر ألف وأربعمائة سنة تجسيداً وسلوكاً وتطبيقاً ، ولو أنكم عدتم معي الى مواثيق الإمام علي ورسائله ، وخاصة عهده لمالك بن الاشتر ( 2)، هذه الوثيقة التي ينبغي أن تكتب بماء من ذهب ، وتعلق على باب مجلس الأمن ، إن كان لمجلس الأمن حرمة لدى الإنسان ولدى البشرية ، إنها عهد يظهر ما للإنسان من مكانة ، وإعزاز عند شريعة الإسلام ، وعند الناطق الرسمي باسمها الإمام علي .
إن الإمام علي ينظر إلى الإنسان كقيمة ذاتية ، قيمتها ، كرامتها ، عزها في ذاتها ، بغض النظر عن أي ميزة ، أو أية فروقات آخرى ، مسلماً كان أم غير مسلم ، عربيا أم عجمي ، ينتمي إلى طبقة لها مكانة بين قومها ، أو إلى الطبقة الدون بين أفراد المجتمع ، ولذلك حين يوصي مالك بن الأشتر يقول له : [ولا فَضْلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ إلَّا بالتَّقوى](3) ، وأن الخلق – وهذه الترجمة كلامي – [الخلقُ كلُّهم عيالُ اللهِ فأحَبُّهم إلى اللهِ أنفعُهم لعيالِهِ](4) ، يذكر له قائلاً ( دم الذمي ) ، ولعل البعض يستعمل مصطلح الذمي ويشعر بصغار ، لكن مصطلح الذمي أرفع مستوى من أي مصطلح آخر يمكن أن تختاره لمن يختلف معنا في العقيدة ، إن الذمي منسوب الى الذمة ، أي أنه في ذمة الله ورسوله ، ومن آذاه فقد أذى الله ورسوله (5) ، وخفر الله في ذمته وذمة رسوله ، (دم الذمي كدم المسلم ) .
يقول له : ( ولا تكن عليهم – على الرعية مسلماً أو غير مسلم – سبعا ضارياً ) لا تقول أن فرصة أن أكون حاكماً لمصر ، هي فرصة كما يفهما الآخرون ، كُل ، إسرق ، إرتشي ، إنتهك ، فأنت راحل ، ( ولا تكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما نظير لك في الخلق ) (6) .
يرسم حقوق الإنسان في ماله : ملكية الفرد مصانة يقول له : ( ولا تمسوا مال أحد من الناس مصل ولا معاهد )(7) ، ليست الحصانة لمال المسلم فقط ، ( إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج ) طبيعي أن يساهم المواطنون في ميزانية دولتهم ، لكن الدولة التي تقوم ، وتبني ميزانيتها على أساس الإساءة للمواطنين لاقيمة لها ، ولا بقاء لها ، ( إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج ، أو تبيع دابة يحمل عليها في درهم ، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو )(8) الزائدة عن حاجتهم .
إن الاعتراف بحقوق الإنسان السياسية حديث العهد ، الناس تربوا على أن يكونوا على دين ملوكهم ، وأن يسمعوا ويطيعوا لهم ، عبيداً عند أسيادهم ، وما تحدث الناس عن الحرية السياسية إلا في القرن العشرين ، لكننا نفتخر أن لنا تجربة في الحرية السياسية والتعددية قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، إلى درجة أن الحاكم أصبح ينظر إلى نفسه محكوماً لرعيته ، أي أن التعددية بمقدار عدد المواطنين ، ولذلك يقول الإمام علي : ( لقد أصبحت الأمة تشكوا ظلم رعاتها وأصبحت اشكوا ظلم رعيتي ، وكنت بالأمس أميراً واليوم مأموراً ، وكنت ناهياً واليوم منهياً )(9) ، إن الرعية أصبحت حاكمة بعددها ، والمحكوم واحد هو الشخص الذي على رأس السلطة .
كان بإمكان الإمام علي ككل الحكام والخلفاء والأمراء ، أن يستخدم السيف لكل ناقد ، ولكل متمرد على الحكم ، متذرعاً بالحفاظ على أمن الدولة ، وأن الدولة تمر بحالة استثنائية ، أو حالة طوارئ ليقوم بتصفية كل المعارضين للحكم ولو بالرأي ، لكنه يأبى لنفسه ذلك ، ولأنه رجل ينطلق من منطلقات وضعها الإسلام واضحة صريحة ، أن لا استخدام للسيف إلا باستخدامه من الطرف الآخر (10)، أما إذا كانت المعارضة في الأطر السلمية والنقد فلم يسمح الإمام علي ، وحين أقول لم يسمح الإمام علي إنما أقول لم يسمح الإسلام ، لم يسمح الإمام علي بأي تجاوز عليه ، لا بالقمع ، ولا بالمنع ، ولا إساءة ، لذلك تجده يوم يخطب على منبر الكوفة ويقاطعه رجل ممن يكفره ، رجل من الرعية يكفر رأس الدولة ، ويقول له في مسجده ، وهو على كرسي عرشه ، على منبره ، يقول له 🙁 لله أبوه كافراً ما افقه ) ولكل حاكم ، أو خليفة رعية وجماعة ، فانبرت جماعة علي تريد قتله ، هكذا تقول لأمير المؤمنين ( لله أبوه كافراً ما أفقه ) فمنعهم الإمام اتركوه ، مالذي حصل ، كل الذي حصل أن الرجل سبنا ، ما الذي حصل ( اتركوه فهو إما سب بسب أو عفو عن ذنب )(11) ، إما أن نرضى أن ننزل الى مستواه ، ونشتمه ، أو أن نعفو عنه ، أما أن تقطعوا رقبة رجل فقط لأنه نفوه بكلام ، ولم يشهر في وجهنا سيفاً .
إن الأمم اليوم يجب أن تعود إلى هذا الموقف لتستلهم منه كيف تحترم الإنسان ، حتى لو كان يخالفك ، حتى لو كان يقصيك ، حتى لو كان يكفرك .
إن الإمام علي كان يريد للأمة أن تعيش في فضاء سياسي رحب ، يريد أن يعطيهم ، بل يعلمهم كيف ينتقدوا الحاكم ، واسمع معي الى هذا الموقف
فقد أتاه الخريت ابن راشد ذات يوم فقال له : ( إني خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين ) من رؤوس الخوارج ، بالمناسبة الخوارج هم أناس منا وفينا ، لهم رأي غير رأينا ، تمردوا على حاكمنا ، يقول الإمام الشافعي [ لولا علي بن أبي طالب لما عرفنا فقه الخوارج ] ، لقد اعتدنا كما هي عادة الأمم أن الذي يختلف معنا نقطع رأسه ، أما أن تدعه منا وفينا ، يرتاد مساجدنا ، بل يأخذ أعطياته من بيت مالنا حتى وهو خارجي ، حتى وهو يكفرنا لا نكفره ، هذا الفقه يقول الإمام الشافعي لولا علي لما عرفنا فقه الخوارج (وقد سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما ) فقال علي : ( إني مستشيرك فيهما ، فماذا تأمرني ) يريد أن يجس نبضه ، فقال الخريت : ( آمرك أن تدعوا بهما فتضرب رقبتهما ) صفي المعارضة ، كما يقول زبانية الطواغيت ، والطبقة التي تصطاد في الماء العكر حول الحكام المستبدين، فقال علي : ( لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ) (12) مشكلتك أنك تتعامل مع شخص لا تعرفه ، لا تفهم تركيبته ، أنا لا أقتل من لم يقاتلني ، من يختلف مع الرأي فحسابه بين يدي الله ، أما أن أريق دماً فهذا شيء ليس من طبيعي .
الإمام علي كأنه في زمننا هذا يخاطب الأمة الإسلامية ، بل يخاطب حكام المسلمين كيف يتعاملوا مع الأجهزة الأمنية ، الإمام علي يرسم الخطة لحكام المسلمين كيف يتعاملوا مع الأجهزة الأمنية والسلطة التنفيذية التي تحيط بهم ، يقول في وصيته لمالك : ( وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس ، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من يسترها ، فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهيره ما ظهر لك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك ، ولا تعجلن الى تصديق ساع – كتبة التقاير وأصحاب الخطوط الجميلة – فإن الساعي غاش وإن تشبه بالصالحين ) . (13) .
سيدنا الإمام بعد أن رسخ مبدأ الشورى كنظام يحكم العلاقة بينه وبين عامة الناس ، ركز أيضاً على ضرورة أن يلتزم الحاكم ،وهذا ما تفتقر إليه ، إذا كنت معنياً فإنما أنا معني بشعوب الإسلام ، هذا ما تفتقر إليه الأمم الإسلامية ، ركز على أن يكون للحاكم يوم يأتي اليه الناس ، يسمع الى شكواهم غير متناس بأن يوصي واليه أن يكون اللقاء بعيداً عن وجود الشرطة ، عن الحرس ، يقول: ( واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك – دع الدولة جانباً وتفرغ لذوي الحاجات – وتجلس لهم مجلساً عاماً ، تتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك وحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمك غير متعتع ) (14) ، حين تجعل جلسة لك وبين يديك العشرات ممن يلوحون بعصيهم وبنادقهم ، سآتي أنا صاحب الحاجة واتعتع ، وأكتم حاجتي ، ولن أستطيع أن أؤديها كما هي ، ابعد حرسك (حتى يكلمك متكلمك غير متعتع ) .
يقول : ( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ) – ليست مهمتك أن تعطي الصلاحيات لوزارة المالية لتنهب أموال رعيتك – ( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة – لن تستطيع أن تأخذ من الشعب إلا إذا عمرت البلد – ومن طلب الخراج بغير عمارة أضر بالبلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً )(15).
يضع ضوابط للحاكم كيف يختار وزرائه يقول له : ( إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام ، فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الآثمة وإخوان الظلمة )(16).
يقول في الضمان الاجتماعي: ( ثم الله الله في الطبقة السفلى – ذوي الدخل المحدود الذين لا أحد لهم إلا الله – من الذين لا حيلة لهم من المساكين ، والمحتاجين ، وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً ، واحفظ لله ما اسحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسما من بيت مالك ، ولا يشغلنك عنهم بطر فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم ، ففرغ لأؤلئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمرهم ، ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه فإن هؤلاء من الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ) (17).
وفي أسباب تدهور الاقتصاد يقول : ( وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر ) .
إن هذه الحقوق الذي رسمها الإمام علي في وثيقته ، وعهده لمالك بن الأشتر يجب أن يعود المسلمون إليه رعاة ليحكموا وفقه ، ورعية لنعرف ما لنا وما علينا ، خاصة في هذه الظروف الحرجة الذي يشار إلينا كمسلمين كإرهابيين ، لا علاقة لنا بحقوق الإنسان ، عنيفون ن نفرض رأينا على غيرنا بالقوة ، نحن بحاجة إلى أن نكتب هذه الوثيقة بماء الذهب لنقول للناس ، هؤلاء نحن ، وهذا هو تراثنا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
الفهارس
[1] شعر فارسي من القصيدة 71 لحافظ الشيرازي في ديوانه الغزليات .
[2] مالك الأشتر النخعي كوفي تابعي ، وسبب تلقبه بالأشتر أنه ضربه رجل يوم اليرموك على رأسه فسالت الجراحة قَيْحًا إلى عينه فشترتها وأحياناً يذكر في كتب التاريخ أو السير مختصراً باسم مالك بن الأشتر ، روى عن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأبي ذر الغفاري ، ولاه أمير المؤمنين علي ولاية مصر .
[3] جزء من حديث نبوي رواه احمد والبهقي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة .
[4] جزء من كلام منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم ، رواه البيهقي وقد ضعفه أهل العلم نسبته الى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[5] مأخوذ من معنى حديث ضعيف رواه الخطيب بلفظ{من آذى ذمياً فأنا خصمه} ويماثله ما في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً.}.
[6] [11][13][14][15][16][17] نهج البلاغة 7/159 .
[7] فروع الكافي:3/540 .
[8] شرح النهج: 17/116 .
[9] بحار الأنوار33/434.
[10] يشير الشيخ رحمه الله الى مبدأ طبقه الإمام علي رضي الله عنه بكل دقة ، لا سيما في مشاكله مع الخوارج ، فهؤلاء خرجوا من الكوفة والبصرة ، وتجمعوا مسلحين ، فلم يبادر الإمام إلى قتالهم وقتل أي منهم ، بل كان قراره: ( لا نبدأكم بحرب حتى تبدؤونا به ) انظر : الطبري: تاريخ الرسل والملوك 4/54، وابن كثير: المصدر السابق 7/312.
[12] نهج السعادة 2/485 .
المقالات المشابهة
المخدرات المعنوية في مجال التصوف – الجزء الثاني
رحلة الإسراء في آية الإسراء – الدكتور معشوق الخزنوي
الإسراء والمعراج وعلاقته بالعلم والعقل/ للدكتور معشوق الخزنوي