Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

العشر الأواخر – الدكتور الشيخ مرشد معشوق الخزنوي

نحن في أهم عشرة أيام في السنة كلها ، أيام مباركة وطيبة ، وتعد من أعظم وأكبر نعمة المولى علينا ، ونعمه علينا كثيرة لا تعدُّ ولا تحصى، ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [سورة إبراهيم، الآية: 34] ، ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[سورة النحل، الآية: 18] ، ومن أعظم نعم المولى علينا وفضله  أن بلغنا هذه العشر المباركة ، فقد حرم منها الكثيرون .

كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ      مِــــــــنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإِخْوَانِ

أَفْنَاهُمُ المَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُـــــمُ       حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنَ الدَّانِي

هذه الليالي العشر الأواخر من رمضان حيث تبدأ من ليلة الحادي والعشرين منه، وتنتهي بخروج رمضان ، ومن عظيم قدرها أنها الليالي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها بالعبادة، وفيها ليلة القدر التي هي “خير من ألف شهر”.

انها أيام المرحمة ، أيام العتق من النيران ، والشقي من لم يشمله الهبة الربانية وذلك الخسران المبين ، فلتكن لنا فرصة ثمينة لأنفسنا وأهلينا فما هي إلا ليال معدودة ربما يُدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة في الدنيا والآخرة .

إنها ليالي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بعناية واجتهاد كبيرين، ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من العبادة والحرص على فعل الخير ، فقد ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: { كان رسول الله  إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله } ، وقد بلغ من حرصه صلى الله عليه وسلم على هذه الأيام المباركات أنه كان يطرق الباب على فاطمة وعلياً ليلاً كما ورد في الصحيحن فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } .

ففي قول عائشة رضي الله عنها عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قولها “وشد مئزره”: كناية عن الاستعداد للعبادة، والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات، كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له وتفرغت. وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وترك الجماع، وهذا هو الأقرب، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون منهم سفيان الثوري، وورد تفسيره بأنه لم يأوِ إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان، ففي رواية الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفي سنده ضعف أنه قال ( كان إذا دَخَلَ العشر الأواخر من رمضان ، طوى فراشه ،  وشد مِئْزَره  ، واعتزل النساء ، وَجَعَلَ عشاءه سحوراً ) .

وقولها “أحيا الليل”: أي استغرق معظمه وكان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي  وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى الصباح، ولا صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان .

وقولها:”وأيقظ أهله” أي: أيقظ أزواجه للقيام والذكر والدعاء، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة، لكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال:{ سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟! ماذا أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة }، لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السَّنَةِ ففي صحيح سنن الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كان النَّبيُّ  صلَّى الله عليْه وسلَّم  يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان.

وقد روى المروذي عن أم سلمة قالت: “لم يكن صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً يطيق القيام إلا أقامه“.

ومن أعظم ما يقوم به المسلم في هذه العشر هو الاعتكاف ، والاعتكاف في معناه اللغوي: لزوم الشيء، والعكوف عليه ، وحبس النفس عليه ، قال تعالى عالى: ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52] مع أنها أصنام وسمى فعلهم عكوفًا، وأيضًا ﴿ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ﴾ [طه: 97] هذا كلام موسى عليه السلام للسامري، مع أنه في الشر وسمي اعتكافًا ، فيقال: عكف واعتكف: إذا لزم المكان، أما المقصود بالاعتكاف في اصطلاح الشرع هو: “المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى”.

وهي عبادة شرعت للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالتفرغ لعبادته وذكره وتسبيحه واستغفاره وقراءة القرآن، وبالانقطاع عن الناس والتخفف من الشواغل تزكية للنفس وتنقية للقلب والروح إذ أن مدار الأعمال على القلب كما في الحديث الذي اخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) ، ولذلك ذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف تعريف بعض العلماء للاعتكاف بقوله: ” حقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق”

وهي سنة عند جمهور الفقهاء في كل الأزمنة والأوقات ، وهي سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه إلى وفاته، فقد اخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضيَ الله عنها زوج النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم: { أنَّ النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده} ، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: {أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ, ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ: (إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ) فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ }.

وهي فضيلة نسيت من قبل كثير من المسلمين ، فقد قال الإمام الزهري رحمة الله عليه : ( عجباً للمسلمين تركوا الإعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ).

واتفق جمهور العلماء على أن الاعتكاف يُسنّ في كل وقت في رمضان أو غيره، وأفضله في رمضان وآكده ما كان في العشر الأواخر منه، ولا حد لأقله من حيث مدته عند بعض العلماء، ويرى آخرون أن أقله يوم أو يوم وليلة .

ويصح الاعتكاف من كل إنسان مسلم عاقل بالغ أو مميز سواء أكان ذكرا أو أنثى، ويجب أن يكون المعتكف طاهرا من الحدث الأكبر (الجنابة)، وأن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه الصلاة .

ويبطل الاعتكاف بحصول أحد الأمور التالية:

1- الجماع إذا كان مرتكبه عامدا عالما ذاكرا لقول الله تعالى: “وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ” (سورة البقرة، الآية: 187).

2- الخروج من المسجد، ولا يبطله الخروج لقضاء حاجة دورة المياه، أو للوضوء والاغتسال الواجب، أو للأكل والشرب إن لم يستطع إحضاره إلا بالخروج، أو لعلاج من مرض شديد.

3- الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة عند أكثر العلماء.

About Author