خطبة جمعة لشيخ الشهداء الدكتور معشوق الخزنوي
في مجمع البر الاسلامي بحلكو ( جامع الشيخ معشوق ) – قامشلو – شعبان – 2002
تفريغ : عبد الرحمن احمد – مراجعة مركز احياء السنة ( مكتب الشهيد الخزنوي )
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات ، الحمد لله الذي علم العثرات ، فسترها على اهلها وانزل الرحمات ، ثم غفرها لهم ومحا السيئات ، فله الحمد ملئ خزائن البركات ، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات ، وله الحمد ماتعاقبت الخطوات ، وله الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات ، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات ، وعدد الحركات والسكنات .
وأشهد أن لا إله إلا الله لا مفرج للكربات إلا هو ، ولا مقيل للعثرات إلا هو ، ولا مدبر للملكوت إلا هو ، ولاسامع للأصوات إلا هو ، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته ، وما انتصر دين إلا بمداد عزته ، وما اقشعرت القلوب إلا من عظمته ، وما سقط حجر من جبل إلا من خشيته .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قام في خدمته ، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته ، وأقام اعوجاج الخلق بشريعته ، وعاش للتوحيد ففاز بخلته ، وصبر على دعوته فارتوى من نهر محبته ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء… وعلى السائرين على دربه والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء.
وبعد أيها السادة الكرام :
مرت بنا ليلة النصف من شعبان منذ ايام ، هذه الليلة المباركة التي تحدثنا عنها في الجمعة الماضية عن زاوية منها وجانب من مكانتها ، هذه الليلة اجدها تفرض نفسها علينا من زاوية اخرى ، من زاوية أنها كانت ظرفا ووقتا لحدث يعتبره المفكرون اعظم حدث في تاريخ الاسلام ، ألا وهو الاستقلال وإلغاء التبعية للأجنبي ، فرسول الله عليه افضل الصلاة والسلام وإن كان يعتبر الإسلام هو الدين الخالص لله عز وجل اين كان ومتى كان من لدن آدم الى أن ختمت الرسالة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان يعتبر كتابه مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان يعتبر نفسه مكملاً لمهمة موسى وعيسى والأنبياء قبلهم ، إلا أنه كان حريصاً بقدر ذلك أن يكون لأصحابه طابعهم الخاص ، ولأمته سلوكها الخاص ، ومنهجها المتميز ، ولذلك كان يتضايق نوعاً ما من استقبال قبلة اليهود والنصارى للبيت المقدس ، وخاصة حين كان يشعر أن اليهود والنصارى يستغلون ذلك في رؤية أمته أتباعاً لهم ومقلدين ، ولذلك كان شديد الرغبة والطلب والإلحاح في الدعاء أن يوجهه الله الى قبلة أبي الانبياء ابراهيم مكة المكرمة فأنزل الله في يوم النصف من شعبان وفي صلاة الظهر قوله ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )(1)، فتوجه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الى جهة الكعبة وتبعه المسلمون حتى أن جماعة من الصحابة كانوا يصلون نحو الاقصى في الشمال فبلغهم نبأ تحويل القبلة في الصلاة فتوجهوا الى الكعبة في الجنوب وهم يصلون ، وأنت تعلم كم هناك من مشقة وارتباك في عملية كهذه ، ومع ذلك لم ينتظروا حتى ينتهوا من الصلاة ، فهم أيضا كرسول الله صلى الله عليه وسلم متعطشون للاستقلال والتحرر والتخلص من التشبه بالآخرين فهم تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم الذين سمعوه يقول { من تشبه بقوم فهو منهم }(2) ، وسمعوه يقول { ليس منا من تشبه بغيرنا }(3) ، لقد كان رسول الله يربي أصحابه على نهج مستقيم لا مجال للانحراف فيه ولا للشذوذ عنه ومن شذ شذ في النار ( وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (4)، إنه يوم النصف من شعبان الذي مر بنا ، هو يوم الاستقلال للأمة الاسلامية ، هو يوم التحرر الذي يجب ان نتذكر فيه وصايا المحرر الاول سيدنا محمد وهو يقول { ليس منا من تشبه بغيرنا } وويل لمن تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها المسلم تذكر وأنت تودع يوم النصف من شعبان يوم الاستقلال أن الاسلام يريدك أن تعيش عالي الرأس ، ويريدك أن تثبت للعالم انك متمز في سلوكك ، ومختلف في كل تفاصيل حياتك ، ويريدك أن تكون عظيم الفخر لأنك كذلك ، ويريدك أن تكد لتحتفظ بهذا الفارق وتعلنه للناس بشجاعة بدلا من أن تذوب في خضم المجتمعات الاخرى وأمواجها المتلاطمة .
ولكني أقول وأنت يا يوم النصف من شعبان على مقربة مني ، اقول وأنا أودعك هاهي الامة قد نسيت النصف من شعبان ونسيت معنى الاستقلال ، ونسيت معه عزة النفس ، هاهي الامة نراها تابعة لاهثة وراء الاخرين مقلدة لهم في عقيدتها ، وأعمالها ، وعاداتها ، وحركاتها ، وسكناتها ، في اقتصادها ، في سياستها ، في كل أمور حياتها ، بل حتى في امور دينها ، إنها اليوم تذوب خلقاً وخُلقاً ، وهاهي هامات الاجداد تنبش من قبورهم ليركلها الاخرون بأقدامهم ، ضعف وذل ، جهل وفقر وفاقة ، تباغض وتحاسد ، تناكر وتصارع ، تقاتل وتذابح ، تبعية وتقليد ، ذل وانكسار ، هزيمة وتراجع ، مهانة وإهانة ، وذلك كله بسبب تقليدنا لهم وتبعيتنا لهم ، إنهم بصراحة لم يستعبدونا انما نحن سودناهم علينا ، يوم نسجنا حياتنا على منوالهم وتتبعنا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع .
ولكن ايها الحبيب لا تفهم من الاسلام حين يريدك مستقلاً متميزاً أنه يريدك أن تصم أذنك عن كل صوت يأتي من الخارج ، الاسلام لا يعادي الاقتباس من الحضارات لتطعيم حضارتنا ، ولا يعارض الاستمداد من الثقافات الاجنبية لتلقيح ثقافتنا ، ولكن من غير ان تهدم دينك وأخلاقك وقيمك وثقافتك وحضارتك وتراثك القومي أياً كانت قوميتك ، خذ منهم ما ينسجم مع حقيقتك كمسلم واطرح غير ذلك ، قلدوا الغرب في علومهم في تقنيتهم ، ادخل معهم في سباق مع الزمن في مجال الطب والكمبيوتر ، اقتبس منهم في سبر اغوار الفضاء ، استعن بخبراتهم في استخراج ثروات الارض ، تعلم منهم احترامهم لقوانينهم ، ودع عنك رباهم وقمارهم وخمرهم .
ولكن الذي حصل اننا اتباع لهم ومقلدون فيما سبق من الاخلاقيات السيئة دون الجانب النافع في حياتهم ، استقبلنا اشكال زيهم قبل علومهم ، احتضنا اخلاقهم قبل مخترعاتهم ، إن الموضة والموديل الذي يظهر في باريس ولندن يكون في اليوم الثاني في محلاتنا ، أما مخترعاتهم فلا تصلنا إلا بعد عشرات السنين ، وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى منه ونبهنا له على وجه التحذير { لتتبعن سَنَنَ من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ فقال رسول الله فمن القوم ! }(5) ، وهذا ما حصل لقد اصبحنا غارقين في مساوئهم ضائعين في متاهاتهم والسبب وراء هذا التقليد هو ما يراه الكثيرون من قوة الاجنبي وضعفنا ، فينظرون اليه نظرة القزم الى العملاق ، ويظنون أن قوة الاجنبي جاءت من شهوانيته وعاداته السيئة ، فيرون عن قصد أو عن جهل أنه لزام علينا أن نأخذ بمنهجهم ونسلك مسلكهم حتى تكون لنا حضارة ، ويصبح لنا وجود ، دون أن نميز بين الخير والشر ، أو الضار والنافع ، ودون أن يفرقوا بين الاقتباس من الامم ما ينفع وبين الذوبان فيها والانصهار في بوتقتها ، لقد سد الاعجاب بالثقافة الغربية منافذ التفكير وقاد الى التقليد الاعمى حتى تفسخت اخلاقنا وبادت مبادئنا وتدهور مجتمعنا ، فهل يمكن القول أن العالم الاسلامي يمر بالتجربة التي مر بها منذ قرون في الاندلس ؟ ما من شك أن حالة المسلمين اليوم هي افظع وأقبح مما كانت عليه في الاندلس ، فهل سننتهي هنا كما انتهى آباءنا في الاندلس ؟ لا اقول أن المسلمين سيطردون من بلادهم كما طردوا من الاندلس إنما اقول أن الذي سيقع هو واقع الان ، أن يطرد المسلمين من حظيرة دينهم ويهجروا من ساحة عقيدتهم ويجردوا من اخلاقهم ومن كل ما يميزهم عن غيرهم من مبادئ وقيم وحتى شعارات ومظاهر ، حتى ينسلخوا من رقعة الاسلام ورابطته شيئاً فشيئا وبذلك لا تقوم لهم قائمة ، وسيظلون يسبحون في فلك الاستعمار ويدورون حول رحاه ويعتكفون في صومعته ويسجدون في محرابه ، وخلاصهم وأمانهم في اتباعهم لقول ربهم (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (6)
–
(1) سورة البقرة 144
(2)من حديث عبدالله بن عمر أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان
(3) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الترمذي وفيه ضعيف
(4) – (6) سورة الأنعام 153
(5) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري
المقالات المشابهة
المخدرات المعنوية في مجال التصوف – الجزء الثاني
رحلة الإسراء في آية الإسراء – الدكتور معشوق الخزنوي
الإسراء والمعراج وعلاقته بالعلم والعقل/ للدكتور معشوق الخزنوي