الدكتور مرشد معشوق الخزنوي
نستكمل في ذكرى شيخ الشهداء معشوق الخزنوي ، وفي تشخيصه لأمراض الأمة ، وما حقن بها من مخدر عندما يقول : أن المسلمون عامة والكورد خاصة مصابون بخلل في التفكير ، فقدنا النظرة الوسطية والموضوعية وبتنا بين الغلو والإفراط ، ارحنا عقولنا أمام هزائمنا وأخطائنا بعدم خلو امة من الخطأ ، وحملّنَا وزرها للساسة والعلماء ، تحرجنا من النقد والنصح ، ضخمنا اجازتنا ، وحجبنا الحقيقة عن امتنا .
تحرجنا من النقد : وأظنني إذا تأملنا أغلب النقد السياسي أو الاجتماعي أو الديني المتداول عندنا ، فإننا نجده يدخل إما في إطار المدح أو التبرير، أو في إطار الشتم، والقذف، ولعلي أحسن الظن بنخبنا السياسية والاجتماعية والدينية تحرجهم من النقد لتلكم الأسباب ، إلا أن للقضية وجهة آخرى.
فلما كان الناس مَجْبُولين على الخطأ والنقص ، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أ، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون}، ولما كان الخللُ والتقصيرُ من طبيعةِ البشر ، على حدّ قول الحريري:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟!
كان الواجبُ على البشرية أن تتناصح ، ويُقوِّمَ بعضُهم بعضًا، وأن ينقدوا من أجل اعوجاج المسيرة .
ومعلوم أن أوَّل ما استُعملت كلمةُ النقد كانت بمعنى فَرز الدَّراهم والدنانير، لبيان الصحيح والزَّائف منها، وتلك مهارةٌ يختصُّ بها الصيارفة، ثم انتقلَت إلى نقد أخلاق الناس وعاداتهم، وبيان ما يتحلَّون به من كريم الصفات، وما يُعاب على أحدٍ من السُّلوكِ، ثم اتسع اللفظ حتى شمل مجالاتٍ عديدة.
وعليه كانت وظيقة النقد الأصلية دراسة الأعمال والأقوال والمواقف وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابِه لها، والكشف عما فيها من جوانب القوة والضعف، والجمال والقبح، ثم الحكمُ عليها ببيان قيمتها ودرجتها.
وبنظرة المتأمل نجد أن خلاصة الدين يتمثل في أداء النصح للآخرين ، مسؤولين أو نخب أو أفراد عاديين ، وتلك هي النصيحة التي روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقوق المسلم على أخيه المسلم فقال : { وإذا استنصحك فانصحه } ، وكذلك ما رواه الإمام مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدين النَّصِيحَة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } ، وروى الإمام مالك رضي الله عنه مالك ، عن سهيل بن أبي صالح السمان ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{ إن الله يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويسخط لكم : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال }.
فالنصيحة والذي يشتمل على النقد البناء ضرورة لاعوجاج المسيرة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال من يقابلك ، روى الإمام أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! بما أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها، وحلوها ومرها، وجيدها ورديئها، وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه إلا من خلال رؤيته لنفسه في أخيه الذي هو مرآة له، ومن جميل ما قاله ناصح الدين الأرجاني :
شَــــــــــاوِرْ سِوَاكَ إذَا نَابَتْكَ نَائِبَة يَوْمَاً وإنْ كُنْتَ مِنْ أهْلِ المَشُـــــــوراتِ
فَالعَيْنُ تَنْظُر مِنْهَا مَا دَنَــــــــــــــا ونَأى ولا تَــــــــــــــرَى نَفْسَهَا إلا بِمِرْآةِ
وكم هو عظيم مَنْ يقول مقيّماً لأصحاب النقد البناء كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : رحم الله مَنْ أهدى اليّ عيوبي.
وإذا ما اشاد الإسلام بمفهوم النصح وكرّم مَنْ يمارسه ، فقد أشاد بالمقابل بمَنْ يوسع صدره لقبول النقد والاستفادة من النصيحة وكما جاء النص القرآني الكريم: ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) [ الزمر : 18 ] ، فكما أن الكلمة الطيبة الحانية قيمة عليا يستحق صاحبها التكريم فإن فن الاستماع هو الآخر فضيلة رائعة يستحق مَنْ يتحلى بها الاشادة والاحترام والإكرام، وبذلك يتحول النقد الى وسيلة للترشيد والتسديد وتجاوز الاخطاء وتلافيها.
لكن مشكلتنا التي يشير إليها شيخ الشهداء أن الكثيرين ممن ارتقوا في السلم الاجتماعي أو السياسي أو الديني اعتبروا أنفسهم زكية ، وأنهم بوصولهم لما هم فيه من منصب وموقع جاز لهم التعالي على من سواهم ، ويظنون أنهم بوصولهم لتلك المراتب جعلتهم أذكى فكراً ، وأرقى حضارة ، وأكمل علماً ، وأوسع إلماماً بمجريات الأمور ، وبذلك يضعون هالة قدسية على شخوصهم يمنعون بموجبه الآخرين من مخاطبتهم ، وهم بذلك يدوسون أول حق من حقوق الإنسانية ، لأنهم لا يوافقونهم الرأي ، ويترجمهم لسان حالهم أنكم أيتها الجماهير جهلاء لا يحق لكم انتقادنا.
وبالتالي فلا نجد من تلك النخب إلا مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح ، بل تجدهم يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- ليس منا، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الحركة ، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك المشيخة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن المجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجدهم يصنفون الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أنهم ضمن الخصوم ،و كثير من المشيخات تعتبر من ينتقدهم من المنكرين ، وعدو لهم ، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه.
كثيرون من نخبنا السياسية والاجتماعية والدينية للأسف ما زالت تعتبر النقد نوعاً من الاستفزاز، أو حط المكانة، أو مخالفة المألوف، لم يتعود الناس على هذا، لم تتعود آذانهم عليه، ولهذا صاروا يشمئزون منه، يستغربونه، يعتبرونه شيئاً عظيماً ، وهم بذلك يمارسون السلوك والمنهج الفرعوني الذي يقول:( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) [غافر:29] وربوا مجتمعاتهم على هذا المنهج والسلوك ، ويضرب شيخ الشهداء لذلك مثلاً في المشيخات الصوفية التي تقوم على سلب إرادة مريديها ، تماما كما تفعله الحركة السياسية عندنا فيقول رحمه الله :
تجهز للقاعدة الأولى التي لا ترضى أن تكون حراً طليقاً ، بل لابد أن تدخل معتقل احدهم تلك القاعدة التي تقول : [ من لا شيخ له فشيخه الشيطان ] وأيكم يرضى أن يكون تابعاً للشيطان ، تلك هي القاعدة الأولى التي تجبر الإنسان على اختيار معتقل ديني أو سياسي أو اجتماعي ، وما أن تختار ذاك المعتقل ، وهذا آخر قرار تتخذه بإرادتك ، حتى تفاجئك القاعدة الثانية .
القاعدة الثانية : [ كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل ] تسلب منك حريتك ، وإرادتك ، واختيارك ، وقرارك ، وفهمك ، بل تنظر بمرآة الشيخ أو الحزب أو الجماعة ، وتكون كما قال الشاعر العربي دريد بن الصمة :
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
حتى إذا هبت عليك رياح الحرية ، وجاءك من يستحثك على إرجاع حريتك ، فكرك ، إرادتك ، اختيارك ، لتنتقد ، وتميز بين الخير والشر ، بين الجيد والردئ ، بين الصالح والفاسد ، صدمتك القاعدة الثالثة التي تكون بمثابة ضربة على القفا موجعة لتلجم الإنسان حتى لا يوصف بأبشع الأوصاف والنعوت ، حيث تقول القاعدة الثالثة [ لا تعترض فتنطرد ] .
وهكذا يستمر المرض وينتعش الداء الذي أشار إليه شيخ الشهداء ، ونخبنا لاشك تعلم وتعرف جيداً وسائل الهروب من الأخطاء ، لأنهم يكرهون وينزعجون من النقد والنصيحة .
يتهربون بأن يحيلو الخطأ إلى الصدفة، ويتجاهلون السنن الكونية ، وقول الله تعالى:( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )[الشورى:30] ويتجاهلون قول الله عز وجل:( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )[آل عمران:165].
يتهربون بتجاهل الخطأ والتقليل من شأنه، أو حتى اعتباره صواباً، كما قيل في المثل: “عنـزة ولو طارت”.
يتهربون من خلال إلقاء اللوم على الآخرين ، ويخرجون سليمين ، فالأخطاء الموجودة الآن هي من صنع الجيل السابق ومن آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، فما هم فيه من أخطاء بسبب العدو ، أو المستعمر، أو الصهيونية، أو الحكام، أو الدين .
يتهربون من خلال التفسير الهروبي والتلاعب بالجمل والعبارات ، وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، وأنه ضمن الابتلاء ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار.
رحمك الله شيخنا معشوق الخزنوي وأعلى الله مقامك في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سلام عليك يوم ولدت ، وسلام عليك يوم استشهدت في سبيل ما تؤمن به ، وسلام عليك يوم تقف امام الرب القادر تقتص من ظالميك .
for Dialogue Tolerance and Religious Renewal
المقالات المشابهة
الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي.. نصير الحق وصوت الحرية
تسعة عشر عاماً على اختطاف واغتيال شيخ الشهداء معشوق الخزنوي
آلدار خليل والنقشبندية والبارزانية والديمقراطي الكردستاني