Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

الهجرة وما قبلها – الاغراء – خطبة جمعة لشيخ الشهداء الدكتور معشوق الخزنوي

خطبة جمعة لشيخ الشهداء الدكتور معشوق الخزنويhttp-khaznawi-de-images-stories-shexxeznawi-khaznawi9

خطبة جمعة في جامع صلاح الدين الأيوبي بقامشلو

سلسلة الهجرة الرقم 2

أيها الاخوة : كلنا يعلم أن شهر ربيع موسم لمولد رسول الله ، غير أن الكثير منا يجهل أن شهر ربيع هو أيضا موسم لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن المسلمين يحتفلون في الأول من محرم بالعام الهجري لأن السنة القمرية التي ارتبط بها العد التصاعدي للتاريخ الهجري يبدأ بمحرم ، أما الهجرة فقد وقعت في شهر ربيع كانت الهجرة من الغار في غرة ربيع ووصل النبي صلى الله عليه وسلم الى قباء في الثامن منه ودخل عليه الصلاة والسلام المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع وهو يوم مولده ، ولحكمة يعلمها الله جاءت المناسبات في هذا الشهر ، ولعل من دلائلها أن يعلم المسلمون أن الهجرة في حقيقتها ولادة أخرى للدعوة الاسلامية جاءت بعد مخاض طويل في مكة دام عشر سنوات ، كان هذا المخاض عبارة عن تعذيب وإرهاب ومقاطعة وحصار وجوع وعري يخالطه في بعض الاحيان استهزاء وسخرية ، بل ضرب وقتل واعتداء على الاموال والأنفس والثمرات والأرض والعرض ، صب كل ذلك على اناس ضعفاء محرومين فقراء أملاً من قريش في نزع فتيل الايمان الذي اوقده رسول الله صلى الله عليه وسلم  في صدورهم ، واتلاف بذرة الايمان التي استنبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جوانحهم وفي قلوبهم ، غير أن قلوب هؤلاء الضعفاء الفقراء كانت اقوى من كل طغيان وبغي وعدوان ، فثبتت في المحنة وصبرت على البلاء وتصدت لكل العواصف وصمدت في وجه قوى الشر والطغيان، وزحفت جحافل هؤلاء الضعفاء بأبدانهم الاقوياء بقلوبهم ، وزحفت جحافلهم تنشر رايات الحق والعدل في أصقاع المعمورة مستمدة قوتها وعزيمتها من إيمانها المطلق بربها وحبها اللامتناهي لنبيها محمداً صلى الله عليه وسلم .

 

ايها الإخوة  ليست ملحمة الهجرة قصة تتلى ، ولا حكاية تروى بقصد المتعة والتسلي، ولكنها الحادث الجلل في كفاح الدعوة الاسلامية والتحول العظيم في مجرى التاريخ، والنجم الذي تألق في سماء الاسلام والمسلمين ، وستظل ملحمة الهجرة درة على جبين الانسانية الخالدة ما دامت البشرية لها مكان ومكانة في هذه الحياة ، لأنها قصة الايمان الذي لمس شغاف القلوب ، وقصة العقيدة التي امتزجت بدم المسلم ولحمه ، وقصة الدين الذي سيطر على النفوس وغمر المشاعر ، وقصة الحب الذي استولى على القلوب والعواطف حتى غدا المسلمون الأولون على درجة من الصفاء النفسي ، والشفافية الروحية والاتصال القلبي بالله عز وجل ، ما أهلتهم لأن يفدوا الدعوة ونبيها بالروح والمال والأهل والعشيرة ، وهي علمتنا أن المهاجرين الأوائل ما عرفوا اسلامهم صلاة فحسب ولا صياماً فقط ، ولا عبادات فارغة جوفاء لا خشوع فيها يؤدونها على عجل حتى اذا انتهوا منها تنكروا لنتائجها وساوموا على قيمها ، انما كانت صلاتهم صلة بينهم وبين الله ، وصومهم امساكاً عما يغضب الله ، وكانت العبادات بالرغم من قلتها في عهد ما قبل الهجرة روحاً ومعناً ولباً ، فظهرت نتائجها في حياتهم العملية صفاء في نفوسهم ، طهارة في بواطنهم حياةً في قلوبهم ، نقاءً في ضمائرهم ، ليناً في طباعهم ، رقةً في تصرفاتهم ،كرماً في اخلاقهم ، استقامةً في سلوكهم ، انصافاً في حكمهم ، عدالةً في قضاءهم ، صدقاً في اقوالهم ، امانةً في رواياتهم ، صلابةً في مواقفهم ، سداداً في آرائهم ، قوة في شخصياتهم،  ذلاً لإخوانهم ، عزة على اعدائهم ، شجاعةً في معاركهم ، اجتماعاً في شملهم ، وحدة في صفهم ، جسماً واحداً في شعورهم بآلامهم وآمالهم.

 

ايها الاخوة : تأتي أهمية ملحمة الهجرة في كونها ليست هجرة جاءت بحثاً عن استقرار وتنعم ورفاهية ولذة ، ومداخيل عريضة وثروة ، انما جاءت انطلاقاً من قيود الشرك وتحرراً من سلطان الجاهلية ، وثورة على القسوة ، والقمع والإرهاب ، وانتفاضة في وجه الباطل ، إنها حقاً حادثة حقيقية تاريخية استثنائية مليئة بالدروس والعظات والعبر والصور التي يجب أن تظل ماثلة أمام أعيننا دائماً ، وخاصة في هذه الظروف الحرجة التي يمر بها المسلمون ليعلم الناس أي ثبات على الحق كان يقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأي صراع مع الباطل خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأية ظروف صعبة مرت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأي مرحلة شاقة انهتها هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فرسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد تلقيه إشارة التبليغ من السماء صدع بأمر الله، وسلك كل طريق ليوصل الدعوة الى الناس أجمعين ، وخاصة أهله وعشيرته الأقربين ، بالمقابل ما ترك هؤلاء الناس حيلة إلا اتبعوها ليردوه عن دعوته ويجعلوا بعثته خبراً بعد عين ، لقد حاولوا اغرائه بالمال والملك والنساء ، ليثنوا عزمه ، ففشلوا ثم عذبوه هو وأتباعه ففشلوا ، ثم ضغطوا عليه عائلياً ليعزلوه ففشلوا ، ثم قاطعوه وحاصروه في الشعب ثلاث سنين هو ومن وقف معه في محنته ففشلوا ، وأخيراً حاولوا تصفيته جسدياً ففشلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبالي كيف وهو الذي أُنزل عليه قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ  ﴾ (1)، فطبيعي أن يصدع هذا الرسول بأمر الله ويقتحم حصون الوثنية ، ويهدم قلاعها ، وينسف كيان الجاهلية ، ويعلنها حرباً سافرة ، على الأوضاع الفاسدة ، والعقائد المنحرفة ، والجاهلية الضالة ، والطواغيت الجاثمة على صدور الناس والآلهة المزيفة التي تتحكم بإرادة الشعوب ورقاب الامم .

 

أيها الإخوة : إذا كانت خطوات قريش للدعوة أهم من أن تفصل في جمعة ، بل تحتاج الى اكثر من جمعة فإني استغل خاتمة هذه الخطبة للحديث عن خطوة من خطواتها ، وهي تجربة الاغراء بالمال والجاه والنساء ، هذه التجربة التي سلكتها قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لثنيه عن دعوته، ظناً منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعاف النفوس ومرضى القلوب ، الذين إذا لاح لهم بارق من الطمع نكصوا على اعقابهم وارتدوا عن مبادئهم، ولكن هيهات فمحمد لا تساوي عنده الدنيا جناح بعوضة ما لم تكن برضى الله وفي خدمة دين الله .

 

وكأني الآن أرى عتبة بن ربيعة وهو سيد من سادات قريش ، يتقدم نحو رسول الله ليمارس الدور بالنيابة عن قريش ، فيقول له يابن أخي : إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يستمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد ”   قال نعم قال ” فاسمع مني ” ، قال أفعل فقال بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم  _ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  _  كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ  _  بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ  _  وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ  _  قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ  _  الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾(2) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما ، يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك (3).

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ، قال ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(4).

 

ثم ارسلت قريش الى رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوه الى ناديها لتخاطبه مجتمعة خوفاً من أن تخسر الوفد وراء الوفد والشخصية تلو الشخصية ، وجاءهم مسرعاً ظناً منه أن بدا لهم فيما كلم عتبه أمراً ، وكان حريصاً عليهم يعز عليه أن يراهم يحرقون أنفسهم بنار الشرك والجاهلية ، فإذا بهم يعيدون مقالتهم السابقة التي حملها عتبة اليه – مال وشرف وملك ونساء واخيراً علاج حسب جهلهم –  فقط دع ما انت فيه حينئذ قال لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم : ما جئت بما جئتكم به أطلب اموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي ، اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم(5).

 

ورفعت الجلسة هكذا بكل قوة وبكل بساطة ايضاً ، لا مساومة ولا مداهنات ، لا انصاف حلول ، لا دنيا ، لا زخارف ، لا أهواء لا شهوات ، بل كل ذلك ذابت أمام عظمة هذا الرجل الذي أظهر ثباتاً أضاء الدنيا وبدد ظلامها وأنقذ الانسانية من قيود الطغيان وعبادة الشر والمال والملك ، ولا عجب فهو الذي قد قال لعمه : ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم أن تشعلوا منها (يعني: الشمس) شعلة(6)، وكما ورد في السيرة بسند ضعيف(7) : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه  ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ  _  لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ  _  وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ  _  وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ  _  وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ  _  لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ   ﴾ (8)  .

واليوم أيها الاخوة : أين رست سفينة أمة محمد ، وما موقفها من الإغراء والمال والجاه والملك والنساء ، هل تستمد من سيرة المصطفى وثباته القوة والمدد ، أم أن المال أغراها وجمال المرأة أعماها ، ونشوة الملك أسكرها ، وعظمة السلطان خدرها ، يؤسفني أيها السادة أن اقول: أن بيننا وبين ذاك الثبات بون شاسع ، وفجوة عميقة ، فكم خسرنا رجالاً لم يقاموا بريق الذهب ، وكم فقدنا أناساً جنوا بامرأة ، وانخدعوا بمومسة ، كم هدمت عوائل ، واحرقت بيوت ، ونسفت مدن ، وهجرت شعوب ، بسبب مصالح تافهة ، وانتماءات مشبوهة ، وارتباطات قذرة ، كم بدلنا مواقفنا اقدما او هزيمة ، كم غيرنا اتجاهاتنا ذات اليمين وذات الشمال ، كم مدحنا أشخاصاً يوم كانوا على سروج خيلهم حتى اذا ولت أيامهم أسأنا اليهم ولعناهم ، كم ابحنا وحرمنا واصدرنا فتاوى متناقضة ارضاء لزيد او خوفاً من بطش عمر ، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ  _  لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ  _  وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ  _  وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ  _  وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ  _  لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ   ﴾(9).

 

اعداد القسم العلمي بمركز احياء السنة للدراسات الاسلامية

———————————————

[ 1 ] سورة المائدة : الآية 69.

[ 2 ] سورة فصلت : الآيات 1-6  .

[ 3 ] النبوية لابن هشام.

[ 4 ] السيرة النبوية لابن اسحاق .

[ 5 ] السيرة النبوية لابن هشام والجامع لأحكام القرآن للقرطبي .

[ 6 ] رواه البخاري في ((التاريخ))، والطبراني في ((الكبير))، وأبو يعلى في ((مسنده))، والحاكم في ((المستدرك))، والبيهقي في ((الدلائل))؛ كلهم من طريق طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة عن عقيل بن أبي طالب مرفوعاً.

[ 7 ] السيرة النبوية لابن هشام ورواه ابن اسحاق في سيرته والطبرى والبيهقي فى الدلائل بإسناد منقطع وضعفه الالباني .

[  8-9 ] سورة الكافرون : الأيات 1-6

 

About Author