Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

النفاق – الجزء الأول – الحلقة 18 – للشيخ مرشد معشوق الخزنوي

الاخوة والأخوات الكرام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ومرحبا بكم في لقاء جديد نتحدث فيه عن مرض آخرى ، ومعصية آخرى من معاصي القلوب إلا وهو النفاق ، أسوء أمراض القلوب ، وأشدها ضرراً على المبادئ والقيم والمعتقدات ، وأكثرها فساداً للفرد والمجتمع ، وهو أحد الأمراض التي تنتشر من خلال الحقد والحسد فيظهر ازدواجية لدى المريض بالنفاق ، فيتذبذب بين ظاهر الايمان والتقوى والإصلاح ، وباطن الكفر والفسوق ، وإتقان لصناعة التلون بعدة الوان واتخاذ عدة وجوه ، والتخاطب بأكثر من لسان ، وإجادة لفن التستر وراء المظاهر الكاذبة من اقوال وأفعال .

وفي التعريف اللغوي للنفاق وأصل اشتقاقها يدلك على هذا المعنى ، فالنفاق مشتقة من النَّافِقَاءُ ، وهي  جحرة اليربوع ( الجربوع )  ، حيث أن اليربوع يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا المخرج، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض، وباطنه حفرة، فكذلك المنافق ظاهره يختلف عما يكتمه من الناس في باطنه .

ابن جُرَيْجٍ يعرف المنافق فيقول : المنافق يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه ،  فالنفاق هو إظهار شيء وإخفاء شيء آخر، أي القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد ، وهو اسم إسلامي اطلق على الذي يستر كفره ويظهر إيمانه لم تعرفه العرب بهذا المعنى  ، وإن كان أصله في اللغة معروفاً ،

ولهذا يصف الله المنافق في القرآن بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )[البقرة:10]، وقال: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) [المنافقون:1].

فالنفاق مظهر من مظاهر الكذب، وإن شئت فقل هو الكذب الدائم والمستمر في العقيدة أو القول أو العمل ، هذا صحيح ، ولكن عند التحليل يتبين لنا أن النفاق مرض مركب من عدة أمراض وسلوك مركب من عدة مساوئ الى جانب الكذب الذي هو أبرز عناصره التركيبية ، وعلى طريقة تركيب المحسوسات وخلط الماديات ، لو أخذنا ربع مكيال من الجبن والخوف والخور ، وربع مكيال من الشح والجشع والطمع والحرص على الدنيا ، وربع مكيال من إنكار الحق وجحوده ، وربع مكيال من الكذب والدجل والفجور ، وخلطنا هذه المقادير خلطاً جيداً لحصلنا على مكيال كامل من خليط خلقي ذميم نراه في سلوك الفرد نسميه بالنفاق ، أصيب به الكثيرون ، وتواجدوا في كل ميادين الحياة ، في كل زمن ومكان ، حتى إنك بت تجد النفاق يحيط بك من كل جانب، تتنفسه أينما حللت ، في المنزل، في الشارع، في العمل، تحت مسميات عدة ، المجاملة.. التملق.. الكذب.. الكولكة.. تمسيح الجوخ.. نفاق من أجل البقاء.. كلها ألقاب ومسميات في عصرنا الحاضر تندرج جميعها تحت مسمى واحد “النفاق “.

يوميا تطالعك هذه المسميات خلف وجوه مقنعة تدعي البراءة والصدق والمحبة، ومن خلفك سكين جاهز للطعن بك حال سقوطك ، إنه النفاق اخطر امراض العصر ، والنفاق على نوعين ، نفاق اعتقادي ونفاق عملي .

النفاق الاعتقادي : ويسمى بالأكبر ، وهو نفاق يخرج صاحبه من الملة، الإمام الجرجاني رحمه الله وهو من كبار علماء اللغة ويعتبر مؤسس علم البلاغة ،  يعرف هذا النوع فيقول : ” المنافق هو الذي يضمر الكفر اعتقادا ، ويظهر الإيمان قولا “[ التعريفات 298 ]، حيث يظهر الإسلام ظاهراً، ويخفي الكفر باطناً، أو يستهزء بالدين.

وهذا الصنف تواجدوا في عهد النبوة وعاشوا في ظلالها  وحاولوا من خلال ذلك هدم كيان الأمة من أساسها ومن داخلها ، ويتوجدون في كل زمان ، ولذلك استحقوا القاباً قبيحة ، ومراتب سفلى وضيعة ،  فقال الله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾  وقال ربنا : ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (النساء 138) ، وقال ربنا : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ هِيَ حَسْبُهُمْ ۚ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (التوبة 68)

القسم الثاني نفاق عملي: ويسمى أصغر بمعنى أن الشخص يعمل عملاً من أعمال النفاق لكنها لا تخرجه من الملة .

و هذا النوع توغل في المجتمع فأصابها في مناحي حياتها اليومية والسلوكية ، من خلال التملق ومسح الجوخ ، والمنافق هنا يعيش حسب قناعات سيده ، و سرعان ما ينقلب عليه حين يسقط  ليتملق  لسيد آخر،  يأكل على مائدة اليوم ، ويجلس على غيرها غدا، لدية قدرة فائقة على قلب الحقائق لمصلحته، يقلب الباطل حقا والحق باطلاً دون أي شعور بالخجل أو تأنيب الضمير، شخصيه تتقلب وتتلون حسب الوقائع والأحداث ، فليس له نهجاً ثابتاً ولا موقفاً واضحاً قال الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ )(التوبة 204)

تجده يظهر المودة والمحبة للأطراف المختلفة ، والاتجاهات المتخاصمة ، سواء كانوا جارين متخاصمين ،او طائفتين متنافرتين ، فيظهر المودة والألفة للطائفة الأولى ويقدح بالأخرى ، وكذلك يفعل إذا ذهب الى الطائفة الآخرى ، الافساد والإيقاع بينهم ، ومن أجل الإطلاع أسرار الإخرين ، ومن عادة الناس أنهم يظهرون أسرارهم لمن يأمنون جانبه ، ويحسنون فيه الظن ، والمنافق لا يتمكن من ذلك إلا بإظهار الوفاء والولاء لهم ، هذا هو ما يسمى ذو الوجهين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ، الذي يَأْتي هَؤُلَاءِ بوَجْهٍ، وهَؤُلَاءِ بوَجْهٍ } .

يقول الامام الغزالي :[ ذو اللسانين من يتردد بين متعاديين ويكلم كلا بما يوافقه ، وقل من يتردد بين متعاديين إلا وهو بهذه الصفة وهذا عين النفاق ].

للأسف هذا منشر حتى في التجمعات والمنظمات الدينية والمذهبية والصوفية حيث المديح الزائف والتملق ، كأن يقوم اتباع شيخ برفع مقامه حتى يصبح خير من ولدت البشرية ، وعلمه بلغ كل أصقاع العالم ، فيصدق نفسه حتى يصل به الامر الى العجب والتيه .

المنافق همه أن ينقب في أخطاءِ الناس، همه أن يبخس من قيمة أي عمل ونشاط، ديني ،اجتماعي ، وطني قومي ، همه أن يطعن في إخلاص المخلصين في المجتمع ، همه البحث في الاخطاء ، وكلنا معرض للخطأ ، لكن المنافق همه البحث عن هذه الاخطاء ولو كانت صغيرة وتسليط الضوء عليها من اجل انتقاص المخلصين في المجتمع ، ونتيجة لما في قلبه من الكبر لا يقبل الحق ولا النصيحة بل يعتبر نفسه على الصواب والحق ، قال الله عنهم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) سورة البقرة، آية: 11.

ولذلك وبالرغم من حرصهم الشديد على التخفي، والبقاء في الظل، إلا أنهم منكشفون ، من خلال فلتات لسانهم وأفعالهم وحركاتهم ، وقد روي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله قوله: مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّه عَلَى صَفَحَات وَجْهه وَفَلَتَات لِسَانه.

فمهما اجتهد مضمر النفاق في إخفاء سوءة نفسه ،وطمس بشاعة سريرته ،فإن ثمة لحظات كشف تأتي عليه لا محالة حينئذ لا يملك كتمان حقيقته ولا يستطيع منع افتضاح أمره ، وقديما قال الشاعر:

ومهما تكن عند امريء من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وهذا ما سنتعرف عليه في اللقاء القادم باذن الله صفات المنافق إن قدر الله لنا اللقاء .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

About Author