Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

الجاليات ومسؤوليتها في انتخابات بلاد المهجر

الدكتور الشيخ مرشد معشوق الخزنوي

منذ أول رحلة للمهاجرين من عرب وكرد وغيرهما من القوميات نحو المجتمع الغربي ، بل ومنذ الهجرة الاولى للمسلمين نحو تلك البقاع لم يتخلوا عن إرثين فكريين جلبوهما معهم نحو بلدانهم الجديدة كانت سبباً في عدم اصلاح احوالهم واندماجهم في المجتمعات الجديدة التي استوطنوا بها .
هذين الإرثين هما : شيطنة الأخر والحفاظ على الهوية.
هاتين الفكرتين التي لم تجلب للجالية المسلمة راحة البال ، فهو ينظر الى المجتمع الذي يعيش فيه على أنه شيطان يسعى بكل ما أوتي للانقضاض عليه واستغلاله وانحلاله وذوبانه ، وهو بالتالي مضطر للحفاظ على هويته فجلب معه تقاليده وعاداته بمحاسنها وسلبياتها ليتقوقع بها معتقداً أنه بها يحافظ على هويته من الضياع .
 
هذه كبرت وعظمت من السلبية في الجالية المسلمة تجاه القضايا العامة للمجتمع الذي يعيش به ، هذه السلبية التي ولدت معهم اثناء عيشهم في بلدانهم الدكتاتورية والفاشية والفقيرة والفاسدة على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ، حيث لم يسمح لهم بإبداء رأي إصلاحي أو معارض، وإن سمحت أحيانًا للديمقراطية فهي على مقاس الحزب الحاكم، وهذا دفع أجيالاً كاملة أن تحذف من قاموسها تمامًا كلمتي “الديمقراطية و الحرية “!
ولذلك تجد هذه السلبية تعايشت معهم في بلدانهم الجديدة ، ولربما ابرز مثال على ذلك سلبيتهم تجاه العملية الانتخابية في بلدان المهجر .
 
فقد يبدو مشاركةَ الجاليات في الإنتخابات العامة ، أمرٌ بَدَهِيٌّ لا بد من الإسهام فيه، و لكن الغالبية الساحقة من المسلمين تقاطع الإنتخابات نتيجة للأفكار السلبية التي يحملونها عن الديمقراطية، فلم يلحظوا أن البيئة تغيرت، وأنه أصبح مسموحًا أن تقول رأيك، وأن أوراق اللُّعبة مختلفة عن تلك التي عاشوها في اوطانهم ، لكنهم وللأسف لم يتغيروا،  بل العكس من ذلك نمو شعور السلبية عندهم لدرجة اعتقادهم أن أية مشاركة في العملية الانتخابية ، سواء بالانتخاب أو الترشح، فلن يغير ذلك من وضعهم شيئا ، وسيبقون على هامش المجتمع.
والحق أن هذه الرؤية خاطئة وقاصرة وتنم عن جهل وعدم إدراك بالواقع الجديد ، لأن المهاجر ينتخب لكي يعدِّل  السياسيون من القوانين والسياسات بما يخدم مصالح المهاجرين.
لكن يبرر ذلك بما تعانيه الجاليات من ضعف الخبرة في المجالات السياسية، فليس هناك توعية سياسية مناسبة للجاليات المسلمة، وبالتالي فهم لا يعرفون ماذا ينبغي لهم أن يفعلوا، ولا يدركوا حقيقة مزايا مرشح عن آخر، ولا يعلمون آليات إنشاء عمل سياسي محترف. وقد يرجع ذلك إلى أن معظم أفراد الجاليات قد هاجروا بُغْيَةَ الإستفادة من قوانين الضمان الإجتماعي [ السوسيال ] ، ومجمل هؤلاء ليسوا من السياسيين عادةً، بل ترسخت في أذهان الكثيرين منهم ثقافة أن الكلام في السياسة حرامٌ وعيب ولا يصح، لأنهم تعلموا ذلك في بلادهم المسحوقة! .
إنه مرض السلبية التي أدركها الرسول وحذرنا منه ، و يصوره لنا في صورة السفينة الباحرة في المحيط ، وكيف يخرق العصاة واللامبالون سفينة الأمة ، وكيف تغرق بسكوت الآخرين وسلبيتهم، يروي الامام البخاري من حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: { مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا } .
ويحضرني هنا مقولة صينية كان يكثر شيخ الشهداء الشهيد معشوق الخزنوي من ذكرها وتكرارها ، وهي تنطبق على حال الجاليات في المهجر حيث يقول المثل الصيني : (المشكلات التي نعانيها الآن من صنع الأجيال السابقة، وسوف تحل بواسطة الأجيال اللاحقة) ، هذا هو حال الجاليات حيث ينطق حالهم : نحن خارج الأقواس، ليس لنا دور في صناعة هذه المشكلات، ولن يكون لنا دور في حلها، وهذا هروب غريب من مواجهة المشكلات التي تعانيها الجاليات ، فيتنصل المهاجركثيراً من المسؤولية، ويلقي بالتبعة على الآخرين.
فتجد أي فرد منهم لا شعورياً، لو قابلته مشكلة او معضلة او عيباً أو منكراً  ، لا يخاطب نفسه ويقول: كيف اساهم في ازالة هذا المشكل أو المنكر والعيب ؟ مجرد أن يرى المشكلة او المعضلة او المنكر أو العيب ينطلق بصورة عفوية ويقول: أين فلان؟ أين الاحزاب؟ أين الجمعيات ؟ أين الحركات السياسية  ؟  أما هو فليس له دور ، ولن تجدي اية وسيلة ما لم تقتنع الجاليات وافرادها بخطر مرض السلبية .
لأن من أهم المهمات ومن الركائز والدعائم الهامة في نهوض أي أمة من الأمم وفي تقدمها وظهور حضارتها أن تتحمل مسؤوليتها ، ولا يمكن لأمة من الأمم أن تتقدم أو أن تبرز حضارتها أو أن يكون لها دور في هذه الحياة ما لم يكن كل فرد من أفرادها متحملا للمسئولية التي أنيطت به .
 
وعليه  لست في وارد ايراد الأدلة على جواز المشاركة في انتخابات بلاد المهجر، فهذه مسألة قتلت بحثاً وتمحيصاً من لدن كثير من العلماء الثقات والذين استدلوا بالعديد من الاحاديث والوقائع لجواز المشاركة في انتخابات بلدان المهجر ، بل اتجاوزا ذلك لأقل بالوجوب لاعتبارات شرعية وأخلاقية وإنسانية ،  في حين أن عدم المشاركة سيكون بمنزلة التقاعس عن أداء واجب وطني مستحق لاسيما في المرحلة الحالية الحرجة التي تمر بها الجاليات في بلدان المهجر ، وما طرأ في الساحة من التوجه العنصري الحادّ الذي يريد أن يضيّق على الهجرة وعلى الجاليات ويمنعها حقوقها ، وما في ثنايا ذلك من احتمالات نمو العنف والعدوان على أبناء الجاليات ومؤسساتهم، لقد تجاوزنا مسألة تسويغ الإدلاء بالصوت الانتخابي ، وأن مَن شاء فعل ومن شاء سكت وتخلّف ، الى وجوب إدلاء الصوت لصالح المعتدل الأقل ضرراً والأقرب إلى الحياد ، والقاعدة الاصولية تقول [ما لا يتم الواجب إلا به فهوواجب ] .
 
حيث إنه بمجرد التأشير على ورقة الاقتراع، فإن الناخب يمنح تفويضاً دستورياً لمن يختاره، يحق له بموجبه أن يقرر ليس مصيره هو كناخب فحسب، بل مصير الجالية كلها ومستقبلهم خلال الفترة القادمة، من هنا تأتي أهمية هذا الحدث ( الانتخابات ) لأننا عندما نستلم كناخبين، ورقة الاقتراع فإن مستقبل الوطن والجالية سيكون بين أيدينا، فإما أن نتخذ القرار الصائب وإما أن نخذل وطننا وجالياتنا، لذا فعلينا جميعاً تقع المسؤولية الوطنية في انتخاب من هو فعلا أهل لتمثيل الأمة بأسرها.
 
وهي امانة دينية يجب أن نتنبه إليها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ:”مَتَى السَّاعَةُ؟” فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ َقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ:”سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ “وَقَالَ بَعْضُهُمْ :”بَلْ لَمْ يَسْمَعْ” حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ:” أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟” قَالَ :”هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ” قَالَ:”فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ” قَالَ :”كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟” قَالَ:”إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ“رواه البخاري ، وفي رواية للبخاري أيضا :”إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ” .
فالانتخاب أمانة كبرى قال المولى سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ }[ النساء58] } يقول الإمام القرطبي : الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور ، ويقول ابن تيمية : ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام بالدين إلا بها ) ، وروى ابن عباس عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال :  (( من قلد رجلاً على عصابة و هو يجد في تلك العصابة أرضى منه لله فقد خان الله و خان رسوله و خان المؤمنين )) رواه الحاكم و صححه .
وقد أعطيت هذه الأمانة للناخبين كي يولوا هذه المناصب مستحقيها ، ممن هم كفؤ لها ، لأن الناخب مستشار من قبل الأمة في تولية من يصلح لعضوية البرلمان أو المحافظة والولاية ، أو البلدية ، و( المستشار مؤتمن ) وعليه أن لايضيع الأمانة ويختار الأمين كما فعلت ابنة شعيب كما يقول الحق سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام في مدين حكاية عن شعيب:{ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ }[القصص:26].
 
وليعلم الناخب ايضا أن الانتخاب شهادة، فإن قيل لك: إن هذا موقع من المواقع ومنصب من المناصب يتنافس فيه عشرة من الناس ونريد منك أن تشهد شهادة لمن ترى أو تعرف أنه أقدر على قيامه بالواجب في هذه المهمة والمسؤولية، فالشهادة حينئذٍ مطلوبة، وهذا هو المقصود في الانتخابات ، والمولى يقول : ((وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا))[البقرة : 282]، وفي صحيح مسلم‏ ‏عَنْ ‏ ‏زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ‏ أَنَّ النَّبِيَّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ :{‏ ‏أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا }.
والمؤمن لا يشهد إلا بالحق، وإذا قصر عن الشهادة في وقت يحتاج فيه إلى شهادته فترتب على غياب شهادته إقرار لباطل، أو تقديم لفاسد أو نحو ذلك فإنه قد يكون آثماً بهذا ، إذ سكت عن حق وكتم شهادة، وكلنا يعلم ذلك في قوله جل وعلا:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة:140]، والله جل وعلا يقول:{ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة:283].
 
وخلاصة الأمر أن الانتخابات تقع بين مداري الحق والواجب، فهي حق قبل أن تكون واجبا، وهي في الوقت نفسه واجب، لكن الحق مقدم رتبة على الواجب، قد يسقط الواجب ولا يسقط الحق، فالحج بذاته، على سبيل المثال، واجب الأداء، ولكن شريطة توفر الظروف الموضوعية من مال وسلامة طريق وسلامة صحة وغير ذلك، فإذا لم تتوفر الظروف الموضوعية لا يتحقق الواجب ولا يلام المرء، في المقابل الانتخابات حق يجب على الناخب أن يأخذه بأسنانه بوضع الورقة في صندوق الاقتراع حتى وإن كانت الورقة بيضاء، لأن المشاركة هي بحد ذاتها علامة صحة على تفهم الحق وتقبل حدوده ومفاده ومؤداه.
 فالمسؤولية في أي انتخابات محلية أو برلمانية متعلقة برقبة الناخب والمرشح على حد سواء، فإذا ما نظر الناخب إلى الانتخابات كحق من حقوقه المشروعة لازمة الأخذ لضمان سلامة مستقبله وخير أولاده من خلال المشاركة وانتخاب الأصلح، وإذا ما نظر المرشح إلى الانتخابات بوصفها مسؤولية ثقيلة وأمانة في رقبته، فان البلد الذي يملك مثل هكذا ناخب واع وهكذا مرشح مسؤول في ظل حكومة وطنية تقف من كل المرشحين والقوائم الانتخابية على مسافة واحدة، توفر الأمن لإنجاح الانتخابات، فان مثل هذا البلد سيعلو كعبه ويسعد أبناؤه .
 

About Author