Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

البهتان – الحلقة 24 – الشيخ مرشد معشوق الخزنوي

السيدات والسادة الكرام – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – ومرحبا بكم في لقاء جديد

السادة الكرام –  العالم اليوم في تخوف من العدوان سواء كان فرداً  او جماعة ، او الاحزاب ، او حتى دول الكل في ترقب من الاغارة عليه والاعتداء عليه ، الاعتداء على حياته ، الاعتداء على كيانه الروحي ، الاعتداء على كيانه الفكري ، الاعتداء على كيانه المالي ، الاعتداء على أرضه ، الاعتداء على شرفه وسمعته ، هذا أمر نعايشه يومياً ، ويلازمنا هذا التخوف في كل لحظة وحين ، بسبب الحقد والحسد الذي تجذر في القلوب ، حيث اصبح ميزان التعامل في دنيا الناس اليوم ، إذا الشخص مختلفاً معي مذهبيا أو سياسياً أوحزبياً أو عرقياً أو عشائريا أو حتى مناطقياً ، فحرامته مباحة لي بالاعتداء عليها ، فلا بأس أن أفتري عليه ، لا بأس أن أغتابه ، لا بأس أن أنسب إليه كل تهمة وألصق به كل نقيصة .

للأسف هذا هو السمة عامة لمجتمعاتنا ، وللناس من حولنا ، وحتى في مساجدنا ، وللأسف الشديد ، والبهتان وإن كان مرض جوارحي لساني إلا أننا نتحدث فيه على اعتبار أن بذرتها تكون في القلب ، وهي أحدى الأمراض التي يجلبها معها مرضي الحقد والحسد اللذين تحدثنا عنهما في اللقاءات السابقة .

الشيخ المناوي رحمه الله يعرف البهتان بأنه : ” كذبٌ يَبهتُ سامعه ويدهشه ويحيره، لفظاعته، وسُمِّيَ بذلك لأنه يبهَتُ: أي يُسْكِتُ لتخَيُّل صحته، ثم يَنكشف عند التأمُّل. (التوقيف للمناوي: صـ84).

يندهش ويحتار كيف تنسب هذا القول السيئ  ، أو هذا الفعل الشنيع لذلك الشخص ، كأن يقال عن المرأة العفيفة الطاهرة أنها زانية ، او عن الإنسان الأمين أنه سارق ، أو عن العالم الصالح أنه فاسق ، الانسان يندهش من هول هذه التهم ، كيف تستطيع أن تقول ذلك ، وهذا من أجرم ما يكون كما قال الإمام علي رضي الله عنه قال :

[ ذقت جميع الطيبات فلم أجد أطيب من العافية – اللهم أنا نسألك العفو والعافية – ، وذقت جميع المرارات فلم أجد أمر من الحاجة الى الناس – اللهم لا تجعل حوائجنا إلا اليك – وحملت الصخر والحديد فلم أجد أثقل من الدين ، وسئلت عما هو أثقل من السموات والأرض فقلت تهمة البرئ

البهتان جريمة ما بعدها جريمة ، لخطورتها كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من أصحابه باجتنابها ، الامام البخاري يروي عن عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ البيعة منهم بقوله :

{ بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم}

انتبهوا هذا ليس له علاقة بالغيبة ، الغيبة شيء والبهتان شيء آخر ، وخير من فرق بينهما هو الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام  ، كما يرويه الإمام مسلم يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة : ((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ – قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ – قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ – قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ – وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ))  ثم تلا قول الله عزو جل (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) }.

الإسلام ينظم العلاقات البشريّة وهو عندما يحرم هذه الامور فهو بذلك يزيل الأسباب التي تفتك بالمُجتعات فتُهلِكَها، ويرفع بذلك بين الناس الشحناء والتباغض والتحاسد، فالغيبة أن تتحدث عن شخص في غيبته وعدم حضوره بما يكره سماعه- ذِكْرُكَ أخاك بما يكْره – سواءٌ أكانت هذه الغيبة في بدنِهِ، أو دينه، أو دُنياه، أو نفسه، أو خُلُقِه، أو ماله، أو ولده، أو زَوْجته ووالده، أو ثَوْبِهِ، أو مِشْيَتِهِ، أو حَرَكَتِهِ، أو عَبوسِهِ وطلاقتهِ، أو غير ذلك فكُلُّ هذه مُتَعَلِّقَة بالغيبة.

اما البهتان فهو الافتراء عليه ، أن تقول إنسان ما لم يقل ، أو تنسب إليه ما لم يفعل أو تحمل كلامه ما لا يحتمل هذا اسمه بهتان .

وقال السيوطي: (الافتراء: اختراع قضية لا أصل لها) ((معجم مقاليد العلوم)) (1/207).

هذه جريمة ما بعدها جريمة ، الله جعلها كبيرة من الكبائر ، والكبيرة هي كل ذنب اعقبه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بتوعد بعذاب او بنار او بطرد او بلعن ، أو ترتب عليه حد من الحدود . هذا اسمه كبيرة

البهتان من الكبائر المعظمة والمغلظة والمستهان بها للأسف من قبل الناس في نفس الوقت .

في صحيح الترغيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { خمسٌ ليسَ لهنَّ كفَّارةٌ : الشِّركُ باللهِ ، وقتلُ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ ، وبَهْتُ مُؤمنٍ ، والفرارُ من الزَّحفِ ، ويمينٌ صابرةٌ يقتَطعُ بها مالًا بغيرِ حقٍّ }.

في رواية اخرى عند الامامان البخاري ومسلم عن ابي هريرة  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : { اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات } .

البهتان يكون على صور

البعض للأسف نسأل الله لهم ولنا الهداية اصبح الافتراء عنده عادة ، وجعله لباسا يرتديه في كل وقت وحين، يختلق الأكاذيب، ويخترع الأباطيل، حتى تجرأ بالكذب  والافتراء على خالقه ومولاه، يقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) [الأنعام: 21]، حيث تجد البعض  يتلاعب بدين الله تعالى ، فيُحِلّ ما حرّمه الله، أو يُحرم ما أحله الله، قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116]، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، ولا يحل لأحد أيّا كان أن يُحل ما حرّمه الله ورسوله.

ومنها الكذب والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن خلال  نسبة الأحاديث المكذوبة والموضوعة على لسانه عليه الصلاة والسلام، فمِن الناس من يخترع الأكاذيب وينسبها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إرضاء لنفسه واتباعا لهواه، أو إرضاء لغيره من الناس، أو ترويجا لبدعته أو ضلالته، والنبيّ -عليه الصلاة والسلام- يقول في الحديث المتواتر: “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مَقعَده من النار” (متفق عليه من حديث أبي هريرة).

والنوع الثالث هو الافتراء على الناس وبهتهم ، فكم من مؤسسة خربت بخبر بهتان ! وكم من أسرة شرّدت بخبر بهتان ! وكم من عداوة ظهرت بخبر بهتان ! وكم من حرب قامت بخبر بهتان ! وكم من مقتول قُتِل بخبر بهتان ! وكم من معتقَل غُيِّب بخبر بهتان !.

ولذلك ، ولأجل عظم مصيبة البهتان كان موجبا للنيران والعذاب عند الله ، لان البهتان ذنب مركب ، ظلمات بعضها فوق بعض ، البهتان ذنب مضاعف ، لأنك إذا بهت انسان فأنت كذبت ، واغتبت ، وأشعت آلافك بين الناس ، وظلمت ، وجانبت الصواب ، فكان سببا في مناقشة الحساب والعذاب  يوم القيامة:

قال تعالى: ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ )[العنكبوت: 13].

 لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم { من قال في مسلم ما ليس فيه ليشينه بها في الدنيا كان حق على الله أن يذيبه في النار يوم القيامة } رواه الطبراني .

وقال صلى الله عليه وسلم { مررت ليلة أسري بي على قوم معلقون بألسنتهم في النار ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ، قال هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } رواه احمد .

وقال صلى الله عليه وسلم { ألاأُخبِرُكم بشِرارِكم المشَّاؤونَ بالنَّميمةِ المُفسِدونَ بينَ الأحبَّةِ الباغونَ للبُرآءِ العيبَ } رواه الهيثمي  .

وقال صلى الله عليه وسلم { من قال في امرئ ما ليس فيه اسكنه الله ردغة الخبال يوم القيامة حتى يأتي ما يخرجه وليس بخارج – لأنهمفتري – فقالوا يا رسول الله وما ردغة الخبال قال عصارة اهل النار } رواه احمد .

وقال صلى الله عليه وسلم : { من حمى مؤمنًا من منافق يعيبه بعث الله تبارك وتعالى ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنًا بشيء يريد به شينه حبسه الله تعالى على جسر جهنم؛ حتى يخرج مما قال. رواه أحمد, وأبو داود

البهتان سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه وذلة بين الناس لصاحبها ، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) [الأعراف: 152].

الامام البخاري يروي قصة اسلام الصحابي الحصين بن سلام ، مروية عنه يقول : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس عليه، وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: “يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”.

فعلمت انه نبي فقلت : أشهد أنك رسول الله فقال ما اسمك قلت الحصين بن سلام قال بل انت عبدالله بن سلام وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني، فأرسل إليهم، فسلهم عني.

فأرسل إليهم. فقال: “أي رجل ابن سلام فيكم؟” قالا: حبرنا، وابن حبرنا وعالمنا وابن عالمنا، قال: “أرأيتم إن أسلم، تسلمون؟” قالوا: أعاذه الله من ذلك.

قال: فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا ، وجاهلنا وابن جاهلنا. فقال: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت؟”.

اقسم بالله هذه الصفة فينا نحن امة الاسلام .

اذا كان الانسان على مذهبك او حزبك او من جماعتك،  ماشي معاك في نفس الاتجاه شوف وجهه منور ، ما شاء الله عليه ، الله اكبر  ، رجل طيب

وإذا خالفك هذا عميل ، هذا يدس السم في العسل

 لو أعجب بحركة سياسية ، بحزب ما وصفه بأفضل الاوصاف وأحسنها وأجملها ، وأنه الوحيد حامي الحمى ، ومن به الخلاص ، لكن اذا بغضها يا ستار  يصفها بأقذر الأوصاف وأشنعها ، وانها متحاملة على الشعب ، وخائنة ، وتريد تدجبين الشعب لصالح الاعداء .

لو قرأ كتاباً فأعجبه هذا الكتاب، صار يتكلم عنه في كل مجال وفي كل ميدان، ويقول: هذا الكتاب الذي ما أُلّف قبله ولا بعده مثله، ، هذا الكتاب الفتح المبين والدواء الناجح ، هذا الذي يجب أن لا يخلو منه بيت ، فاذا لم يعجبه  فيقول: هذا الكتاب لا قيمة له ، ولا يستحق أن يُشترى ولو بفلسٍ واحد، هذا الكتاب لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب فيه، ولا قيمة الطباعة، ولا قيمة الورق ، ثم يهون من شأن هذا الكتاب، حتى يُنفِّر الناس عنه!.

نسأل الله -تعالى- أن يحفظ ألسنتنا من الكذب والافتراء والبهتان، وأن يجعلنا من الصادقين في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، وأن يحشرنا في زمرة الصادقين المتقين.

وصَلّ اللهم وسلمْ وباركْ على حبيبنا ونبينا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

About Author