السيدات والسادة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ومرحبا بكم في لقاء جديد ، حيث مستمرين في الاستفادة من جواهر قول الإمام جعفر الصادق رحمه الله في مقولته الشهيرة التي يقول فيها : عجبت لمن فزع من ثلاث كيف لا يفزع إلى ثلاث :عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” حسبنا الله ونعم الوكيل ” فاني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها: ” فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ” .وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” فاني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ” فاستجبنا له ونجَّيْنَاهُ من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين ” .وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ” وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ” فاني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: ” فَوَقَاهُ الله سيئات ما مكروا “.
كنا في اللقاء الماضي مع قوله رحمه الله : وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ” فاستجبنا له ونجَّيْنَاهُ من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين ”، اليوم نستكمل في قوله رضي الله عنه : وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ” وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ” فاني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: ” فَوَقَاهُ الله سيئات ما مكروا “
وعجبت لمن مكر به ، المكر هي الخدعة والحيلة والدهاء، والذي يغتم ويقلق الإنسان منه ، هو ذاك المكر والتخطيط الذي يقصد منه إيصال المكْروه إلى الإنسان مِن حيث لا يشعر ، وهي تلك الحيل الخفية التي يدبرها البعض للأخر لصرفهم عما يقصدون بحيلة .
اللهم من مكر بنا اجعل مكره عائدا عليه ، ومن حفر لنا حفرة فاجعله اللهم واقعاً فيها ، ومن نصب لنا شبكة الخداع اجعله اللهم مساقاً اليها ومصاداً فيها ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا .
نحن في هذه الدنيا ايها الاحبة ، نتنافس فيها على مصالحنا ، وطبيعي أن يحصل المكر بين الناس ، تارة بدافع الحسد ، وتارة بدافع البغضاء والضغينة ، وأخرى عائد إلى خبث طباع الماكر – يهوى أذية الناس – هي عنده هواية .
أنت في عملك لديك أصدقاء وأقران تتنافس معهم في صنع ذاتك ، واثبات مقدرتك ، فيحسدونك ، وهذا الحسد قد يركب بعضهم ويسوقه إلى المكر بك ، وتتبع هفواتك للإيقاع بك ، أطمئن فإن الله مطلع يسمع ويرى .
أنت تحتاج الى ثقة تامة بالله ، وتحتاج الى تفوض كامل لله ، وهذا ما يقصده الإمام جعفر الصادق رحمه الله ويشير إليه ، كيف لمن يفزع ويخاف من هذا التخطيط والتدبير الماكرين ، كيف لا يفزع الى تفويض أمره لله ، ويقوي ثقته بالله ، وينمي الايمان في قلبه ، ويتوكل على الله بكل كيانه ، ويشهد لسانه على ذلك بقوله وأفوض امري الى الله إن الله بصير بالعباد .
فإني سمعت الله يقول بعقبها – أي بعقب هذا القول – الذي صدر من مؤمن آل فرعون – الذي كان ناصحا لقومه ، داعياً لهم للهدى ، ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (سورة غافر38) وهو يعظ قومه – وينصحهم في اتباع الطريق السوي ، وفرعون يخطط للإيقاع به ، والمكر به ، ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) لكن الله نجاه – وهذا مقصد الامام – فإني سمعت الله يقول في عقبها ، أي في عقب قوله (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) عقبها أي بعدها مباشرة قول الله تعالى ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
هذه سنة أيها السادة ، سنة وضعها الله – ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويل ، اطمأن – فالله عالم بمكر الماكرين – ولن يضرك مكرهم ، بل سيعود المكر على الماكرين ، اسمع الى أعظم طمأنية وسكينة من قبل الله ، يقول المولى عز وجل : ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ) [فاطر: 43]
فما من آية قررت أن مكر الماكر راجع على أهله – أعظم من هذه الآية ، فقد شحنها الله بمؤثرات لفظية من شأنها أن تورث المؤمن قناعة كاملة لا يخالطها شك – أن من مكر بالناس يرجع مكره عليه .
استعمل الله في هذه الآية – أسلوبا بلاغيا هو الإثبات بعد النفي ، وهذا الاسلوب الغاية منه الحصر والقصر ، كما في مثل قول المولى عز وجل في سورة الذاريات : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )(الذاريات 56) .
وما خلقت الجن والإنس هذا نفي ، إلا ليعبدون هذا اثبات، والعلماء يقررون أن هذا الأسلوب يفيد قوة في الدلالة أكثر من غيرها .
تأمل ما لو قلت لك دخل محمد المسجد ، تفيد دخول محمد المسجد لكنها لا تفي دخول غيره – ثم تأمل ما لو قلت لك – ، ما دخل المسجد إلا محمد ، لا شك أن العبارة الثانية اقوى في دلالتها من العبارة الأولى لأنها إفادة الحصر والقصر – نفت أي دخول للمسجد واثبت الدهول فقط لمحمد حصرا – ، ولذلك كان استعمالها في أعظم ركن من أركان الإسلام – وهي الشهادة ، أشهد أن لا إله – هذا نفي – إلا الله – اثبات وحصر الامر على الله وحده – ونفي الإلوهية عما سواه .
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ – نفي – إِلاَّ بِأَهْلِهِ إثبات بعد نفي ، وكأن الله يقول لنا ، كونوا على ثقة تامة ، واطمئنوا إلى أن المكر السيئ مرجوعه إلى الماكر ، ولا يمكن أن يصيب الممكرون بهم بشئ إلا إذا كان ذلك مقدر له من قبل الله.
الثعلبي احد المفسرين في تفسيره الكشف والبيان يروي : أن كعبا – وهو كعب الاحبار من التابعين كان يهوديا من علماء اليهود اسلم في خلافة ابي بكر الصديق ، الثعلبي يروي أن كعبا قال لابن عباس : قرأت في التوراة : من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس : أنا أوجد لك ذلك في القرآن ، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى : {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} [ الكشف والبيان في تفسير القرآن – ١١/٢٦٤ ] .
والسابقون احدثوا فيها امثالا لتأكيد هذا المعنى وهذه السنة ، ينقل الحافظ السخاوي له كتابه المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ينقل من الامثال عن المكر منها : (( من حفر لأخيه قليبا أوقعه الله فيه قريبا ،- ومنها ايضا – من حفر جبا أوقعه الله فيه منكبا ))[ المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة – ١١١٣ ] .
هذه سنة الهية في هذا الكون ، الله ربنا برحمته وعدله – اخذ العهد على نفسه بأن لا يحيق المكر السئ إلا بأهله ، وهو أثر من اسمي الله العليم والعادل .
فالله محيط بكل شي ، بكل دقيقة ،- لا تخفى عليه خافية ، – والماكرون يدبرون – يخططون بليل – لا يراهم الممكور بهم ، ولا يطلعون على ما يحاك لهم خفية وخلسة – ، لكن الله يسمع ويرى والله ، وهو عالم بما يدبرون: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )(سورة إبراهيم : 47) وذلك لأن الله عادل ، ومقتضى عدله سبحانه – أن لا يظلم في مملكته مظلوم إلا اقتص الله له .
ألا ترون أن أخوة يوسف مكروا به ، ألم يخططوا ويدبروا خفية – ليكون يوسف عبدا ذليلا ، ويبعدوه عن أبيه – فصار ملكا عزيزاً .
خططوا ليحظوا هم بمكانة يوسف في قلب أبيهم يعقوب عليه السلام ،- لكن الأمر كان على خلاف ما دبروا – فقد كان فقدان يوسف سببا في ازدياد تعلق قلب الاب يعقوب به – وكانت النتيجة أن وقفوا بذل بين يدي يوسف – وبعدها أذلاء بين يدي أبيهم يعقوب عليه السلام : (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ )(سورة يوسف : 97) لأن الله عليم وعادل .
وسيدنا موسى مكر له فرعون وجنوده ، ليعتقلوه ، وليقتلوه ، هكذا خطط فرعون ، وهكذا دبر قادته العسكريون ، لكن الله ارجع مكرهم إليهم – بإن شق النهر فدخلها موسى والمؤمنون معه فنجوا ،- ودخلها فرعون بجنوده فغرقوا ، (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (سورة غافر : 45)
ثمود قوم نبي الله صالح – بعد صدهم لنبي الله – تأمروا وخططوا ودبروا ومكروا ليقتلوا نبي الله صالح وأهله – فماذا كانت النتيجة – هلاك القوم ونجاة النبي – اسمع الى قول الله عنهم : ( وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ )[النَّمل: 50-51].
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يخطط له مشركوا مكة – فيجتمعون في دار الندوة -ويتأمروا ويمكروا ويخططوا ما يفعلونه برسول الله صلى الله عليه وسلم – ثم يستقر امرهم على قتله عليه الصلاة والسلام – ولكن بني هاشم يطلبون دم ابنهم – فيخططوا من جديد كيف يتخلصوا من مطالبة بني هاشم فيمكروا – ويقرروا ان تختار كل قبيلة وفخذ منها اشجع شبانها – فيجتمعوا فيقتلوا محمد بضربة فتتفرق دمه بني القبائل ،- هم جالسون يخططون ويمكرون لرسول الله – ، ولكن عند الله مكرهم – فيخبر نبيه – ويخرج من ليلته في طريق الهجرة الى المدينة المنورة – ينجيه الله من مكر قريش ، يقول الله تعالى عن ذلك 🙁 وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].
اطمأن – وثق بعدل الله – حتى تخطو خطوة اخرى نحو القلب السليم – تحتاج الى تزرع الثقة التامة بالله – وان الله لا يخلف وعده – فلا يحيق المكر السئ إلا بأهله – والى غد استودعكم الله – والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقالات المشابهة
وإنك لعلى خلق عظيم – خطبة للدكتور مرشد معشوق الخزنوي
البهتان – الحلقة 24 – الشيخ مرشد معشوق الخزنوي
الطمع – الحلقة 23- الشيخ مرشد معشوق الخزنوي