بقلم: توفيق عبد المجيد
مهداة إلى الشيخ الصاعد محمد مرشد الخزنوي
جمعتني وإياه ، وللمرة الأولى مناسبة إحياء الذكرى السابعة بعد المائة لميلاد الصحافة الكردية ، والتي أقيمت في إحدى المزارع القريبة من مدينة شهداء الكرد ” قامشلو ” .
كانت الصورة المرتسمة في مخيلتي للشيخ الجليل مغايرة تماماً لما رأيت على أرض الواقع ، قامة فارهة يحملها عمود فقري مستقيم ، لحية جميلة كثة سرت في أسفلها بدايات الشيب ، فامتزج اللونان الأسود والأبيض ليكونا تلك الصورة الجميلة ، وتخضب اللون الحقيقي للشعر بالبياض ، ليزيد اللونان شيخنا الجميل وقاراً واحتراماً وهيبة تنضافان إلى العمامة البيضاء كبياض سرية صاحبها ونقاوة قلبه الكبير ، لتعبرا أصدق تعبير عن المكنون والمخبوء في الباطن .
أجل !! في الذكرى السابعة بعد المائة لميلاد الصحافة الكردية ، لمحته للمرة الأولى والأخيرة يوم 22/4/2005 ، ولكنني لم أكن محظوطاً بالتحدث إليه سيما وأن لحديثه – كما يقول المحتكون به والقريبون منه – نكهة خاصة – ويبدو ذلك جلياً من الكم الهائل من الناس الذين كانوا يؤمون مسجده المتواضع بكل ما فيه ، ليستمتعوا بخير الكلام .
كان يرد على المكالمات التي أتته في ذلك اليوم ، من أين ؟ لا أدري ، ولكن صوته طرق مسمعي وهو يقول لأحد الهاتفين إليه : ( إننا نحيي ذكرى ميلاد الصحافة الكردية ) ثم جلس قبالتي في الصف الأمامي وكانت بضعة أمتار من الأرض المعشوشبة تفصلني عنه ، وكنت أدمن النظر إليه كمن قد اكتشف شيئاً عظيماً ، ولكنه لم يشارك المحتفلين بإلقاء كلمة كانوا ينتظرونها بشوق وعطش ولهفة .
لم يكن طبيعياً أبداً في ذلك اليوم ، كان مهموماً ، كان يفكر في شيء ما ، وكأنه كان على موعد قريب مع القدر ، وكأنه أدرك بحسه الديني ، وإيمانه الصادق بالله ، أن أيامه باتت معدودة لأنه حاول أن يجدد مياه البرك الآسنة ، حاول أن يضخ الروح والحياة من جديد في مستنقعات التفكير الراكدة فألقى فيها حجارة حركتها على شكل دوائر انطلقت من المركز وتوزعت على الأطراف فأيقظتها من سباتها ، ولكن القدر كان له بالمرصاد ، فلم يمهله حتى يتمم الرسالة ، ويؤدي الأمانة ، واحتل شيخنا الوقور مكانه وبجدارة وامتياز في سجل الخالدين الذين ضحوا من أجل أفكارهم .
انتهى الحفل وعدنا إلى بيوتنا ، لكن كانت صورته قد تشبثت وبقوة بمخيلتي ، وارتسمت في ذهني ، وانطبعت في عينيّ ، مستغرباً أولاً ومستعظماً ثانياً أن يهتم من في منـزلته بهكذا مناسبات . ومرت الأيام المتبقية في مذكراتي الشخصية من عمر شيخنا المتنور الكبير ، إلى أن جاءني النبأ الصاعق في يوم الثاني عشر من أيار وفي حوالي الساعة السادسة بعد الظهر عندما أوردت فضائية كردستان النبأ التالي : ( اختطاف الشيخ محمد معشوق الخزنوي في دمشق ، ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان تطالب بالكشف عن هوية الخاطفين ) .
لقد كان الشيخ الخزنوي مصيباً في نظرته الثاقبة ، ورؤاه السديدة ، عندما حاول أن يساهم في بناء الشخصية الكردية من جديد ، بدءاً بالطفل الكردي ، لأنه غرسة للمستقبل ، فأعطاه الحق الرباني ككل الكائنات التي خلقها الله ، أعطاه الحق في أن يتعلم لغته منطلقاً من النداءات القرآنية الكثيرة ، مؤمناً حتى الأعماق بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ، معتمداً على مرجعيته الدينية ، وإرثه الإنساني الضخم ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) ( الحمد لله رب العالمين ) التي يرددها المسلم خمس مرات على الأقل في اليوم ، كما كان يؤمن كل الأيمان بعدالة القضية الكردية مترجماً إيمانه بالله على أرض الواقع دون خوف من أحد ، شريطة أن تثبّت تلك الحقوق في الدساتير ( إن الطفل الكردي – لا بد وأن يتعلم لغته – كما منحها الله الخصوصية – شأن خصوصية سواها وأن يكون له الحق القومي والدستوري ، شاء من شاء وكره من كره ) على حد قول شيخ شهداء الكرد محمد معشوق الخزنوي رحمه الله .
واليوم ، ونحن نستعيد تلك البكائية الأليمة ، بقلوب حزينة ، وعيون دامعة ، لا يسعني إلا أن أنحني احتراماً لجوامع الكلم ، لخير الكلام ، للحضور المتميز ، وفي الوقت المناسب لشتى المناسبات الكردية لأستاذنا المتنور ، وشيخنا الجليل الذي كان منسجماً تمام الانسجام مع إيمانه ومعتقداته ، فقد علمنا حياً وعلمنا شهيداً ، كما علم المتقوقعين والمتحجرين الاعتدال والانفتاح على الآخر بفكره المتنور واجتهاده الجريء الذي لم يعرف المساومة والمهادنة مع التكفيريين والإرهابيين ، في دعوة صريحة وشفافة بعيدة عن التعنصر والتطرف إلى الدفاع عن الشعوب المقهورة كشعبه الكردي الذي ضحى من أجله ، كان مصمماً على أن يفعل الكثير ليعطي الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام ، الصورة التي تعرضت كثيراً للعبث والتشويه فأحبه إخوتنا المسيحيون حباً لا يقل عن حب المسلمين له ، ليكون بحق وحقيق النسخة المحبوبة للإسلام السياسي ، ليكون خير من يستطيع أن يمثل الإسلام في حوار الأديان والحضارات .
كل الاحترام لخير السلف الشيخ محمد مرشد الخزنوي وهو يتجرأ ويقول ( إن الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر وإنه-أي الشيخ- ليس في وارد الدفاع عن أي مسلم باستثناء الرسول ) .
رحمك الله يا شيخنا الجليل وأسكنك فسيح الجنان ، وأسبغ الصبر والسلوان على قلوبنا جميعاً ، ونحن نعلم أن الذي يخلّف لا تموت أفكاره لأنها مختزنة في شعور ولا شعور كل كردي ، مختزنة في قمم الجبال الشم ، محفوظة في الذاكرة الكردية ، في فضاءات الحرية ، على هذه المساحات الشاسعة من الجسد الكردي ، في مداد أقلام أصدقائك الكثر وقد خلفتهم ، وهم يتوزعون على الجهات الأصلية الأربع ، فنعم ما خلفت ، وبارك الله في خلفك .
12-4-2006
المقالات المشابهة
الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي.. نصير الحق وصوت الحرية
تسعة عشر عاماً على اختطاف واغتيال شيخ الشهداء معشوق الخزنوي
في ذكرى انتفاضة اذار 2004 لابد من استذكار الشيخ الشهيد، الخزنوي المعشوق!