Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

في ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام

الدكتور مرشد معشوق الخزنوي
 
بسم الله الرحمن الرحيم
في مثل هذه الايام ينشغل المجتمع المسيحي باعياد الميلاد وما يرتبط بها من ايام ويظهر ذلك جليلا في المجتمعات الاوربية ، واجد هنا ان من حقي ايضا ان احتفي بميلاد السيد المسيح كما قال النبيى المصطفى عليه الصلاة والسلام ليهود المدينة عندما وصلها مهاجراً فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسأل عن ذلك فقالوا هذا يوم صالح ، يوم نجى الله فيه موسى من فرعون ، فقال عليه الصلاة والسلام أنا أولى بموسى منكم فصامه ، قياسا عليه اجدني اولى بعيسى منهم وقد كان المصطفى يكثر من قوله { أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم } كما رواه البخاري ،  وان كانت لي طريقة في الاحتفاء بالسيد المسيح فهي ان اتذاكر سيرتة العطرة وما خصه به الدين الاسلامي الحنيف .
فقد أبدى الاسلام من خلال مصادره الأساسية القرآن الكريم والسنة النبوية اهتماما بالغاً بالسيد المسيح عيسى عليه السلام ، الى درجة أن المرء لا يعد مسلماً إذا لم يؤمن برسالة المسيح عيسى عليه السلام ، وقد كان من اهتمام الاسلام بالمسيح أن ورد ذكره في  93 آية من القرآن ، تناولت شخص السيد المسيح وعائلته ، ابتدأ بولادة أمه ، ونشأتها نشأة الطهر والعفاف والعبادة والتبتل ، مروراً بإكرام الله تعالى لها بأن رزقها غلاما بدون أب مع حفظ ورعاية الله لها أثناء حملها وولادتها ، مرورا بصفات السيد المسيح ومعحزاته ، و تعليماً من القرآن الكريم للمسلمين، كيف يحبون سيدنا عيسى ويكرمونه ويؤمنون به كما يؤمنون بكافة الأنبياء والرسل، سميت ثاني اطول سورة في القرآن باسم عائلته – سورة آل عمران – كما سميت سورة ثانية بمعجزته – سورة المائدة – واخرى باسم امه الطاهرة العفيفة – سورة مريم – اضافة الى ذكره في كثير من السور ، ومقالة كهذه لا تفي بتفصيلات ذلك ، فذاك يحتاج الى بحوث ومؤلفات تفرد لذلك ، غير أنني في هذه المقالة احاول ذكر ومضات سريعة من ذلك بحيث تفي بالغرض ولا تخل بالبحث ، فابدأ باسم الله .
اولاً : المنبت الطيب :
من عظيم فضل الله على أنبيائه اختيار المنبت والبيت الطيب لانبيائه ، فالقرآن الكريم ينظر الىالسيدة مريم أم المسيح عيسى على أنها رمرزاّ من رموز الطهر والعفاف ، تفرغت للعبادة ، اختارها الله لتكون موضع عجيب قدرته فارسل اليها جبريل ليفخ في جيب السيدة الطاهرة لتحمل بالسيد المسيح ، قال سبحانه في بيان ذلك :{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } (التحريم:12) .
 
ثانياً: الولادة المعجزة:
الله هو رب العالمين وهو خالق كل شيئ وهو على كل شيئ قدير ، لا تحكمه عادة ، ولا يعجزه أمر ، فالله يخلق بأب ، ومن غير أب ، ومن غير أب وأم ، قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران:59) ، فالمسيح هو الشخص الوحيد الذي وُلد من عذراء، ولقد أوضح النص القرآني الحوار الذي دار بين الملك والعذراء مريم عند بشارتها بولادة المسيح والمراد من ذلك ، فذكر في سورة مريم: “ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – مريم 21) “، وفي موضع آخر يذكر القرآن الكريم كما في سورة الأنبياء: “والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين” وأوضح في آية أخرى طريقة الحمل المبارك المعجز ، قال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً }( مريم:16- 19) ،  فالمسيح آية للعالمين لولادته من عذراء دون أن يمسها بشر.
 
ثالثاً : الله عز وجل من سماه :
السيد المسيح عليه السلام مبارك في اسمه لان الله عز وجل هو من سماه ، فقد بلغ الملك السيدة مريم باسمه عندما بشرها بالمسيح يقول الله في القرآن : “ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ” آل عمران 45.
 
رابعاً: المسيح مبارك في حياته ومحمي بحفظ الله له :
اختار الله المسيح لنفسه واختاره نبيا ورسولا له فحفظه من كل شر وذنب ، فهو محاط بعناية الله وحفظه ، وحفظه وأمه الطاهرة من مس الشيطان ، فقد وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: “ما من مولد يُولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها” ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم قول الله عز وجل “ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( ” آل عمران 36 .
خامساً:اختصاصه بالمعجزات العظام :
لما كان السيد المسيح عيسى عليه السلام أحد أولي العزم من الرسل الكرام الذين بعثهم الله لتبليغ دينه ، فقد آتاه الله من الآيات المعجزات العظام منها ما هي من خواص رب العزة جل جلاله اهداها المولى لنبيه عيسى دليلا على صدق دعوته ، فمن ذلك إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، وتكليم الناس في المهد صغيراً ، وخلق الطير من الطين ، وغير ذلك من المعجزات مما هو مذكور في قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكمه وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ }( المائدة:110) ، ومن معجزاته عليه السلام ، استجابة الله عز وجل لدعائه في إنزال مائدة من السماء تلبيةً لطلب الحواريين – أصحابه – حتى يزدادوا يقيناً بنبوته ، قال تعالى مبينا هذه المعجزة :{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }(المائدة:112- 114)
سادساً:  المسيح عضو في هيئة اولي العزم من الرسل
كرر القرآن الكريم ذكِّر حقيقة عيسى – عليه السلام – وحقيقة دعوته ، وأنه ما هو إلا رسول من عند الله بعثه لتبليغ دينه ، وإعلاء شريعته ، فمرة يذكر هذه الحقيقة بصيغة الحصر ، كقوله تعالى :{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }(المائدة:75) ، وتارة يذكر المسيح في معرض ذكره للرسل الكرام عليهم السلام ، على اعتبار أنهم إخوانه وهو واحد منهم ، كقوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً }(النساء:163) وغيرها من الآيات التي تدل دلالة قاطعة على أن عيسى عليه السلام ما هو إلا رسول من عند الله عز وجل .
 
 
سابعاً : المسيح والرفع المبارك
لم يسلم عيسى – عليه السلام- من أذى اليهود الذين بُعث لهدايتهم ، حتى بلغ بهم أن شكوه إلى الرومان ليقتلوه ، وبعد ان جمعوا امرهم لقتله عليه السلام كانت عنايةالله بأن القى شبهه على احد الناس ليصليب الشبيه ويرفع السيد المسيح الىالسماء يقول الله في بيان وتجلية هذه الحقيقة : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } (النساء:157-158) وقال أيضاً :{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(آل عمران:55)
 
وبهذه الأسلوب الرائع الذي حدَّث به القرآن عن شخصية عيسى – عليه السلام- تتشكل في ذهن كل مسلم صورة واضحة المعالم ، صورة – على روعتها – سهلة في فهمها واستيعابها ، ويمكن تلخيصها بكلمات يسيرة ، فعيسى – عليه السلام- وإن كانت ولادته معجزة من أمٍّ بلا أبٍ ، إلا أنه كسائر الرسل فيما سوى ذلك ، فهو بشر أرسله الله عز وجل داعية إلى بني إسرائيل ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأيده بالآيات والمعجزات ليكون دليلا وبيانا على صدق نبوته ، وحجة على من خالف وعاند وكفر ،{ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ }(مريم :34 ).
 
 
 
 

About Author