بسم الله الرحمن الرحيم
السيدات والسادة الكرام – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – ومرحبا بكم في حلقة جديدة .
في الأمس كنا نتحدث عن التدبر في كتاب الله وآياته كوسيلة للوصول لسلامة القلب ، وهو أمر المولى عز وجل حين قال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) {محمد:24}.
فلا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، من خلال تدبر القرآن يكون شفاء – ومن خلاله يكون سلامة القلب ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) {يونس:57}.
الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه له كلام دقيق ورائع عن تدبر القرآن ، هذا الكلام مروي في كتب الشيعة ولا اعرف لهذا القول سند عند اهل السنة من حيث السند ، لكنه كلامه عجيب ومهم ،صادر عن سليل وإمام بيت النبوة ، يقول فيها الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: عجبت لمن فزع من ثلاث كيف لا يفزع إلى ثلاث :عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” حسبنا الله ونعم الوكيل ” فاني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها: ” فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ” .
وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” فاني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ” فاستجبنا له ونجَّيْنَاهُ من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين ” .
وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ” وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ” فاني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: ” فَوَقَاهُ الله سيئات ما مكروا “.
هذه المقولة الجميلة والرائعة ، تشير الى ما يصيب النفس البشرية من تقلبات تعكر عليها صفو الحياة من خوف ، قلق ، هم ، حزن، أو مكر الإنسان فيها ، ولعلاج هذا الأمر كان الفزع الى كنوز القرآن الكريم ، والتدبر في آياته ، لاستخراج ما لهذه الداءات ما يناسبها من علاجات تسكن القلب ، وتثبت الفؤاد ، وتملئ القلب طمأنية فيقول رضي الله عنه .
عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” حسبنا الله ونعم الوكيل ” فاني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها: ” فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ” .وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” فاني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: ” فاستجبنا له ونجَّيْنَاهُ من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين ” .وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ” وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ” فاني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: ” فَوَقَاهُ الله سيئات ما مكروا “.
عجبت لمن خاف ، متعجب ومستغرب ، كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل “حسبنا الله ونعم الوكيل” فإني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء
هنا يشير الامام جعفر الصادق الى الايات الواردة في سورة ال عمران ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
” حسبنا الله “يعني: يكفينا الله ، ونعم الوكيل ” أي وهو خير من يوكل اليه الامر ، وخير من يفوض اليه الأمر .
فإني سمعت الله يقول في عقبها ، هنا ينسب السماع لنفسه رضي الله عنه إشارة الى كلام الله في القرآن أنه حاضر وليس غائب ، فقط يحتاج الى من يتدبره ، يقول في عقبها أي في عقب قول المؤمنين حسبنا الله ونعم الوكيل أي في نهايته وهو النتيحة ( فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )
فانقلبوا بنعمة من الله “، فانصرف الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح وهو الخوف من لقاء العدو ، ولقاء العدو هذا في معركة حمراء الأسد ، ومعركة حمراء الأسد – هي فصل من فصول معركة احد – وليس معركة مستقلة .
بعد خسارة المسلمين في موقعة أحد ، ودفن الشهداء السبعين ، 65 من الأنصار ، وواحد من اليهود الذي بايعوا وعاهدوا الرسول ، وأربعة من المهاجرين -، عاد النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة المنورة ، وفي اليوم الثاني نودي للجهاد ، وأن لا يخرج إلا من شهد بدر ، وذلك لملاحقة جيش مكة ، وخوفا من اغارتها على المدينة المنورة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بمكان اسمه حمراء الاسد على مسافة 20 كم من المدينة المنورة .
في المقابل القرشيون ، وهم قريبون من المكان الذي عسكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يتلاومون فيما بينهم بسبب نتيجة المعركة ، قال بعضهم لبعض:لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.
بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعاً وهو ينجح في المقابل تجنب لقائه. فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ، لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ}، أي زاد المسلمين قولهم ذلك: {إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].
فانقلبوا بعمة من الله- يعني بعافية من ربهم – بأن لم يلقوا حربا – ورجعوا سالمين غانمين رضي الله عنهم باستجابتهم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالإنسان في جسمه له قوانين, وفي نفسه له خصائص, أحد أكبر خصائص النفس: الخوف. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾[سورة المعارج الآية:19]هلوع متخوف – في كلا الحالتين – في حالة السوء خوفه من ان يهلك – وفي الخير خوفه ان بفقدها .
وشعور الخوف ، انفعال طبيعي يمر على جميع الناس ، على اختلاف أعمارهم، أشكالهم ، أماكن سُكناهم ، حالاتهم الاجتماعية ، لكن حين ينتابك هذا الخوف فالتجئ الى العلاج القرآني كما وصفه الامام جعفر حسبنا الله ونعم الوكيل .
حين يلهج لسانك بقول: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، متدبراً كل لفظة فيها – حاضر القلب ، فأنت بذلك ترفع قضيتك من الأرض إلى قاضي السماء للحكم فيها، فهو قاض كل ضعيف، وملاذ كل مظلوم، من احتمى بظله كان تحت عينه في أمان، لم يقربه خطر، ولم يمسسه ضرر.
وحين تجعل الله وكيلك -تظهر العجز التام له سبحانه وحده، لينوب عنك في كل شيء في الحياة، كبيرها وصغيرها.
يروى عن ابن عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قوله : كان آخرُ قولِ إبراهيم عليه السلام حين أُلقِيَ في النَّار: «حسْبي اللهُ ونِعْمَ الوكيلِ».
عندما حشد النمرود ملك بابل جنوده و أعوانه – وجمعوا الحطب – وأوقدوا نار الكره في قلوبهم ، ونار الغل على ألسنتهم – فأججوا نارا كبيرة لا يقترب منها طير إلا احترق ، وربطت يدي خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام – ورفع بالمنجنيق ليلقى في النار ، والناس ينظرون إليه لا أحد ينقذه ولا قريب ينصره ، بعد أن كاد لأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وحطمها.
وهو في المنجنيق جاءه جبريل قائلا له: أتريد مني حاجة يا إبراهيم؟ قال: أما إليك فلا – وأما إلى ربي فنعم ثم قال خليل الرحمن: «حسبنا الله ونعم الوكيل» ، فأنجاه الله من النار وجعلها بردًا وسلامًا عليه: “قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ”.
هذا مثال من قول الامام جعفر الصادق عليه السلام على تدبر ايات القرآن الكريم – فكلنا يبحث عن القلب السليم وطرق الوصول الى القلب السليم الاخلاص – وتدبر القران .
أسال الله أن يرزقنا جميعا قلبا سليما خاشعا – والى غد استودعكم الله – والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقالات المشابهة
وإنك لعلى خلق عظيم – خطبة للدكتور مرشد معشوق الخزنوي
البهتان – الحلقة 24 – الشيخ مرشد معشوق الخزنوي
الطمع – الحلقة 23- الشيخ مرشد معشوق الخزنوي