بقلم: سيامند إبراهيم*
siyamend02@yahoo.com
في تلك الليلة الماسية خرجت من صومعتي القامشلاوية, وسرت مع الشيخ معشوق الخزنوي
لم تكن النجوم مثلنا تسير بهدوء ونحن نحث الخطا بشكل أسرع, فإذ هو يودعني ويصعد إلى فضاءات جديدة, صرت أمشي وحيداً, وثمة أسئلة كثيرة تدور في مخيلتي عن ليل هذه المدينة, وعن أشباح تجوس في كل الأمكنة, تصيخ السمع لكل همسة تخرج من أفواهنا’ آذان مدربة لاترتوي من هسيس كلامنا المزهر, أشباح سوداء تضحك بشبق الغانيات تبحث في كل مكان عن تخريب العشق في مدينة تسمى مجازاً (مدينة العشق),
كل شيء في شوارع قامشلو الليلية تتلألأ, جدران البيوت الطينية المهملة من تعب السنين, وعاديات الزمان المتشح بكل طيف أسود يمسد وجوه السكان باصفرار كلون الليمون المشرئب في سقي لا متناهي, النجوم المتلألئة هي أيضاً تلتصق بحنو لا مثيل لها, تصهل في فرح تتقلب, لحظات, وأفقد أثر الشيخ, لكنني لا أرسم تمثيليات هزلية في قصة اختفائه؟! ويغيب شيخنا, وإذ به يغازل النجوم في أفق السماء, تنطلق شرارة من علياء السماء, تزداد حركة النجوم, كل من في المدينة يخرجون فوق أسطح المنازل, يرتابون, يهلعون من شدة الخوف, تتسارع حركة الناس في الشوارع, عيون الناس شاخصة نحو السماء, والكل يسأل ؟
أليس ذاك الطيف هو شيخنا المعشوق الخزنوي؟
يصاب الناس بالوجوم. ما بين مصدق لما تراه عينيه, وما بين هذا الذي يجري في السماء!
قال أحدهم:”السماء وحدها عرفت قدر الشيخ” قلت لكم إنه من طينة أخرى!
ألم تحضروا خطبه أيام الجمع! أين أنتم أين عقولكم؟ أين أفئدتكم!
السماء عرفت حقه و أنتم أنكرتم عليه كل شيء! لكم من قوم….
هم يعرفون من هو هذا الضيف المعشوق, يجول المعشوق ويتأمل في سر كينونة هذا الكون العظيم, ويتكىء على جدار الثريا, وهو النجم الذي أحبه أكثر من القمر الغوي لآلاف العشاق, يبدو أن ثمة علاقة حميمية بين النجم الإنساني المعشوق والثريا السماوي, يتناول المعشوق الخزنوي مصحفاً مزنراً بآيات القلب المطوية بحنوٍ, يجلس في صحن السماء ويتأمل في الأرض وهو ليس بحاجة إلى خريطة لتدله على مسارات سهول, ووديان ميزوبوتاميا, خريطة عبثت بها أيادي خبيثة, تقحم هشام في سهول ميزوبتاميا, هنا يتوقف المعشوق ويمعن النظر في جبل هو ليس ككل الجبال, يهفو قلبه للإمعان في النظر إليه, جبل يحمل الصلادة بكل معانيها, جبل يعيش معهم يتألم مثلهم, يفرح مع فرحهم, لا يستقبل أحداً في ذراه, سوى الصقور الأبية, ينظر الشيخ إلى ميزوبوتاميا, يبحث ثانية عن الجبل الذي رست سفينة النبي (نوح) عليه واسمه (جودي), يقف الجبل وهو يتأمل أيضاً شيخنا الخز نوي ويقبل يديه بحنو, ويذرف الدموع شوقاً وحباً لهذا الشيخ المبارك, يحاول النهوض والخلاص من هذه الجذور التي غاصت في أعماق الأرض, يتماوج أحياناً مع الألوان اللازوردية, يرنو في قلاعه, في ذرى هاماته, يمسك بشدة بآذان شجر البطم والزعرور, ويقرف من صعود هذه الذئاب الطورانية, نحو هاماته, يرمي بحجر من طرف رجليه لكي لا يدنوا هذا الذئب ويدنس هذه القمم الربانية التي تعانق السماء, وتعود ثانية إلى البحث عن شيخنا الخزنوي, تبث له إشارة كردية ممزوجة بالياقوت الأحمر والمسك والعنبر, تتوقف حركة الكون, يذهل الشيخ لهذه الهدايا, ويقف للحظات يغلق مصحفه, وأوراقه الكردية وحاسوبه الشخصي, وينظر إلى جهات الروح الأربع, قامشلو, مهاباد, آمد, هولير, ترسم أيقوناتها وتحاول لثم لباس الشيخ المعشوق, وترسل له باقة تجمع السوسن, القرنفل الريحان, النرجس, البنفسج,
يجيب الشيخ وهو يبتسم: قائلاً أحبتي أنتم أيضاً آيات طبعت في نسغ دمي, آيات تعطر جسدي النحيل, نفسي تتماوج وتلتصق بكم, روحي باقية معكم تشد من أزركم, تاريخنا عبق يسمو في العلياء, رسالتي لكم هي, المحبة, اعشقوا أرضكم, اعشقوا لغتكم الكردية, لا تتعاملوا مع الذين يتعاملون معكم بنفس العنصرية,والبربرية.
يهبط الشيخ إلى محراب شاعر العشق الملا أحمد الجزيري, ويجلس في حضرته وينظر إلى حائط المحراب وهي مزينة بصفحات مرسومة بأنامل الجزيري الإبداعية وفي إحداها يقول
الشيخ الجز يري:
(إذا كنت تبحث عن الدر المنثور تعال لعند الملا وانظر إلى شعره عندئذٍ أنت لا تحتاج إلى الشيرازي)
جلسا وتسامرا وصب له كأس من دن خمرياته الكردية المعتقة, وأطلعه على بعض الأسرار الصوفية, وبعض الشطحات, وتمنى الشيخ لو تجرع الحب مثله, وفتح له الديوان واطلعه على الكثير من الأدبيات الإبداعية, وقبله الجزيري وربت على كتفي الشيخ وقال له بوركت يا بني, يا عود الريحان في روضة الجنة الغناء بإذن الله. واستودعه ونزل في جزيرة بوطان وولج محراب مم وزين يبحث عن الشاعر احمدي خاني, و ها هو الشيخ ينتهي من إلقاء محاضرته لمجموعة من الفقهاء, وأستغرب من مجيء المعشوق الخزنوي ثم حياه الشيخ, وجلس قبالته, وقال له: أنت معلمنا الأكبر في حب الوطنية وحب الكرد يا شيخنا, كم كنت مشتاق لرؤيتك والتعرف عليك أكثر وسماع شيئاً من ملحمتك الخالدة (مم وزين), وتعجبت كل الإعجاب بفكرك النير ووعيك القومي قبل ظهور فكرة القوميات في أوروبا, وتألمت لحال الشعب الكردي وتشرذمه, وتعجبت من حكمة الله وحرمان الأكراد من كل الحقوق. وهم يعيشون تحت سلطة الشعوب الأخرى, وبعد أن أهداه الشيخ نسخة مخطوطة من ديوانه, وسقاه كأس من ماء نهر دجلة الخالد, وطار إلى بلدة مكس وبحث عن شاعر مبدع وهو فقهي طيران, وتذكر أن أحدهم سأل الشيخ أحمد الخزنوي:
كيف ترى مستوى الملا الجزيري ومستوى فقهي طيران.
فرد عليه الشيخ وقال: الشيخ شيخ, والفقه فقه أي طالب العلم الديني.
وسلم على فقهي طيران وقال له إنني معجب بشعرك البسيط السلس, ومحاورتك الشعرية, مع Ava Mezin ) نهر دجلة, وكيف سألته عن سر جريانه الدائم, وعن سر عشقه, و عن خلجات قلبه الهائم في فراق الوجد, أنت دائم الجريان ودائم التألق في جريانك والأشعة الذهبية الرقراقة تتمايل مع ضحكاتك, وتبسمك لمواكب النوارس والقطا, والبلابل العطشى لنسيم الحرية, يغادر شيخنا مكس ويمم شطر وجهه نحو بارزان وفي الطريق يسلم ويقبل جبال, متين, سفين, قنديل, ويحط الرحال في موطن الأبطال ومنبع الثورات وقمم الشموخ في حاج عمران, ويقبل الصخور وهاماتها, كل ذرة من دم شهداء الأكراد, ويسلم على البار زاني الخالد, ويروي له البارزاني قصة كفاحه الطويل في النضال الطويل, وعن رحلته من جمهورية مهاباد, ويروي له قصصاً عن شخصية القاضي محمد ووصايه في عدم الثقة بأبناء ساسان وغدرهم بالكرد منذ قديم الزمان و إلى الآن. يودع الشيخ الخزنوي بارزان ويرجع إلى قامشلو ويرجع إلي ثانية ويروي لي من مشاهداته العجيبة ورؤاه الخاصة, ثم قال لي أكتب ثم أكتب عن العشق, والوطن والأخوة ولا تخف في الحق لومة لائم, فالحق لا بد أن يحق وأصحابه لابد لهم من استرجاعه.
———————–
* رئيس تحرير مجلة آسو الثقافية الكردية في سورية.
المقالات المشابهة
الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي.. نصير الحق وصوت الحرية
تسعة عشر عاماً على اختطاف واغتيال شيخ الشهداء معشوق الخزنوي
في ذكرى انتفاضة اذار 2004 لابد من استذكار الشيخ الشهيد، الخزنوي المعشوق!