Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

الإخلاص سر الخلاص – الشيخ مرشد معشوق الخزنوي

السيدات والسادة الكرام – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – ومرحبا بكم في لقاء جديد نبحث فيه عن القلب السليم .

في اللقاء السابق فصلنا القول في التعرف على القلب السليم ، وكان نتيجة التفصيل أنه لا نجاة للعبد أمام حضرة علام الغيوب ، ولا منجي لك يوم العرض إلا أن تكون ذا قلب سليم ، مصدقاً لقول ودعاء خليل الله إبراهيم عليه السلام  : (  وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 87 ].

فإن كنت صاحب هذا القلب ، نسأل الله أن نكون جميعا منهم ، إن كنت صاحب قلب سليم فأبشر ، فقد وصفت من قبل المصطفى عليه الصلاة والسلام بخير الناس ، كما في حديث ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { أي الناس أفضل؟ قال: ” كل مخموم القلب، صدوق اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد }.

إن كنت صاحب هذا القلب السليم فاشكر الله ، واحمده على هذه النعمة العظيمة ، وأكثر من الدعاء أن لا تفارقك هذه النعمة ، فإن قلوب العباد بين أصبعين من اصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .

إما إن لم تكن صاحب قلب سليم فدونك السبيل ، وأولى سلم الوصول الى القلب السليم الإخلاص ، أن تخلص العمل لله تعالى .

فحينما يمتليء قلبك إخلاصا لله سبحانه وتعالى يكون قلبك سليما من الأمراض المضادة للتوحيد ، بمعنى أنا موحد بالله ، فأنا لا أخشى إلا الله ، ولا أرجو إلا الله ، ولا أخاف غير الله ، لا أنافق أحدا في سبيل دنيا ، ولا أبيع ديني من أجل عرض دنيوي.

وبالتالي فلا أحسد إنساناً على ما أتاه الله ، ولا احقد عليه ، ولا ألتزلف إليه ، ولا اكيد له ، ولا أتكبر على خلق الله فالقلب ليس فيه محل لغير الله .

هذا يؤدي بك الى شدة الحساسية من المعصية والذنوب ، فكلما كنت شديد الحساسية من الذنب – كانت علامة على سلامة قلبك ، الإمام مسلم يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ، أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ } الطير في رقة قلبه – وشدة الانتباه والحساسية – أول ما يجد ابن ادم يهوي ليحمل شيئأ يطير بعيداً ، وكذلك صاحب القلب السليم هو شديد الحساسية من الذنوب – وليس معنى ذلك أن تكون معصوماً عن الذنوب ، مؤكدا ليس هذا هو المقصود ، وإنما يقصد به يقظة القلب – وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الامام احمد عن أبي مسلم الباهلي : { أنَّ رجلًا سألَ رسولَ اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ – : ما الإيمانُ ؟ قالَ : إذا سَرَّتكَ حسَنتُكَ ، وساءَتكَ سيِّئتُكَ ؛ فأنتَ مؤمِنٌ}  .

فأولى مراتب السير للوصول الى القلب السليم – هو اخلاص العمل لله ، اخلاص العمل لله يطهر قلبك من الحقد من الغل من الخيانة .

فالاخلاص موضوع مهم – وموضوع خطير ، لأنه يتعلق بقبول العمل عند الله تعالى ، لو أنك جئت أمام الله تعالى بأعمال كالجبال – لكن نية الرياء داخلتك ، لكن الاخلاص لم يكن حاضراً – لم يكن لك من عملك حظ ولا نصيب ،  فعملٌ بلا إخلاص لا أجرَ له، وصلاةٌ بلا إخلاص لا ثواب لها، وصدقةٌ بلا إخلاص لا قيمة لها.

اسمع الى المولى في الحديث القدسي – الذي يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : قال الله تبارك وتعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) ، وفي رواية ابن ماجه : ( فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ) فقيمة العمل بإخلاص صاحبه – ومعنى أن الله منه برئ وهو للذي أشرك – أنك لن تجد هذا العمل في ميزان حسناتك – وستقدم يوم العرض على الله مفلساً من عملك – مصداقاً لقول الله عز وجل : (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا )(الفرقان 23)  ، لذلك في حديث أخر رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {  إذا جمع اللهُ الناسَ يومَ القيامةِ ليومٍ لا ريبَ فيه نادَى منادٍ مَن كان أشركَ في عملٍ عمله للهِ أحدًا فليطلبْ ثوابَه من عندِ غيرِ اللهِ فإنَّ اللهَ أغنى الشركاءِ عن الشركِ }

ولذلك الامام الجرجاني لما عرف الاخلاص قال : بأن لا تطلب لعملك شاهدا غير الله  ، ومنه قال العارفون الإخلاص سر الخلاص .

اسمع في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً – هم أن يتصدق وما تصدق كتبت له أنه تصدق ، هم أن يقوم قيام ليل وما قام كتبت له قيام ليلة لأن النية موجودة والعزم موجود – وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ) هنا محل الشاهد – هل هذا التضعيف في عدد الحسنة من دون مقياس – ومن دون ميزان ، لا ، ابن كثير رحمه الله في تفسيره يقول :  إن ارتفاع الرقم مقرون بارتفاع الاخلاص لله ، فكلما ارتفع اخلاصك ارتفع رقمك .

الإخلاص سر الخلاص –  ابو القاسم الجنيد لما عرف الإخلاص قال : الاخلاص سر بين الله وبين العبد ، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده .  لأنه لا يطلع عليه إلا الله ، الملك يكتب صورة العبادة ، قمت للصلاة صليتها ، الملك يكتب أنك صليت لكن قبولها وردها هذا مناطه بالإخلاص الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله .

فالإخلاص أمر مهم جداً في حياة المسلم ، وهو أول طرق الوصول للقلب السليم الذي به النجاة يوم العرض ، من أجل هذه الأهمية للإخلاص يقول الشيخ ابن مفلح الحنبلي : وددت لو أنه من العلماء من لا شغل له إلا أن يعلم الناس الاخلاص ، لماذا يا ابن مفلح ، قال لأنه لن يضيع كثير من الخلق امام الله يوم القيام الا بسبب تضييع الاخلاص لله .

ابن عطاء الله يقول الاعمال صور قائمة – أي أن الصلاة تمثال ، والحج تمثال ، و الزكاة تمثال هي كالأشباح لا روح فيها عديمة الفائدة لا تتحرك –  الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها ، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة ، كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها – وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها.

فالإخلاص أمر الله لنا قال المولى عز وجل : ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].

والإخلاص يُنجيك من إضلال الشيطان وإغوائه: قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82 – 83]

والمخلص محفوظ بحفظ الله من المكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام :  ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24].

فالإخلاص سر الخلاص ايها السادة ، ومن مباحث الاخلاص النية لكننا نؤجل الحديث فيه الى اللقاء القادمة لنختم اليوم  بكيفة الوصول الى الإخلاص .

كيف نحقق الاخلاص لله ، كيف نكون من المخلصين ، تريد أن تكون من المخلصين ؟ ، أمران الزمهما ترزق الإخلاص بإذن الله .

الاول : إخفاء العمل : كلما استتر العمل كان أرجى للقبول وأعز في الإخلاص ، كما تخفي نفسك عند فعل المعصية ، وأنت تهتك الستر بينك وبين الله – اخفي نفسك أيضا عند فعل الحسنات ، يقول بشر بن الحارث : ” لا تعمل لتذكر، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة “

عمرَ بن الخطاب رضِي اللهُ عنه خرج إلى المسجدِ فوجد معاذًا عند قبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يبكي ، فقال : ما يُبكيك ؟ قال : حديثٌ سمِعتُه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : اليسيرُ من الرِّياءِ شِركٌ ، إنَّ اللهَ يحِبُّ الأبرارَ الأتقياءَ الأخفياءَ الَّذين إن غابوا لم يُفتَقدوا ، وإن حضروا لم يُعرَفوا.

كلما اخفيت عملك – كلما ارتقيت في سلم الاخلاص ، تأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله – يوم لا ظل إلا ظله – ذكر منهم كما في رواية البخاري ومسلم : { ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} . رجل تصدق فأخفى صدقته – ورجل اوجد العلاقة بينه وبين الله بالذكر والتضرع والاستغفار متخفياً بعيدا عن الاعين .

سيدنا الامام علي زين العابدين ابن الحسين ابن علي بن ابي طالب كان أهل المدينة يبخلونه ، أي لما يُسأل عنه – يقولوا أنه رجل به بخل – فلما مات جاع نصف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو الذي كان يطعمهم – كان يأتي بأكياس الدقيق ويحملها الى بيوتهم بالليل – ويتركها أمام البيوت المعوزة وينصرف – وهم لا يشعرون أن الذي يحمل هذا الطعام هو مولانا الامام علي زين العابدين ، ما عرفوا ذلك إلا لما مات ووجدوا أثر أكياس الدقيق التي كان يحملها بالليل على كتفه رحمه الله .

اليوم لو واحد اعطى بضع يوروهات يكتب عنها في الفيسبوك .

فأول أمر يوصلك الى الإخلاص إخفاء العمل الصالح الزبير ابن العوَّام رضي الله عنه ينصح ويقول : “اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصَّالح، كما أنَّ لكم خبيئة من العمل السيِّئ”.

ثانياً : احتقار العمل : آفة العبد – ومفسد القلب هو رضى الانسان عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، ومن نظر إلى عمله بعين العجب قلَّ معه الإخلاص، أو نزع منه أو حبط العمل الصالح بعد العمل، يقول سعيد بن جبير : ” دخل رجل الجنة بمعصية، ودخل رجل النار بحسنة، فقيل له : وكيف ذلك ؟ قال : عمل رجل معصية فما زال خائفاً من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى، وعمل رجل حسنة فما زال معجباً بها ولقي الله بها فأدخله النار ” .

ابن حجر العسقلاني يروي عن عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنها ، قالت : سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عن الآيةِ : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أَهُمُ الَّذينَ يشرَبونَ الخمرَ ويسرِقونَ ؟ قالَ : لا يا ابنَةَ الصِّدِّيقِ ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ وَهُم يَخافونَ أن لا يُقبَلَ منهم ؛ أولئِكَ الَّذينَ يسارِعونَ في الخيراتِ

اسال الله ان يرزقنا جمعيا الاخلاص في القول والعمل – نستكمل في بحث النية في الغد باذن الله ، والى الغد استودعكم الله – والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

About Author