تحول الدين الإسلامي الحنيف بعد انهيار الدولة الإسلامية الأولى إبان حياة النبي إلى أداة وآلية تستخدم للإساءة بيد الحكام المستبدين ، ومن خلفهم الأنظمة الأمنية القمعية المتعددة ، الذين أخرجوا الإسلام من مضمونه الأخلاقي الذي أنزل ونشأ على أساسه ، وتكون به قواعده العملية والعقلية المرتكزة أساساً على قاعدة أن ( الدين معاملة حسنة ومساواة وتسامح بين كافة الناس وعدل بين المجتمعات ) .
وإن الشعوب التي استخدمت الدين لمصالحها الخاصة تكاد لا تتعدد في بلاد المسلمين ، فمن العرب إلى الفرس إلى الترك ، جميعهم وضعوا بلدانهم عواصم ودوراً للخلافة الإسلامية على مر العصور .
إلى جانب شعوب أخرى قدمت الكثير من التضحيات للإسلام دون استخدامه لمصالح خاصة ، فمثلاً عندما قاد الكورد مسيرة الإسلام ، ورفعوا لواءه في الفتوحات كان بالإمكان استخدام تلك الإنجازات الكبيرة والتاريخية في بناء الأمة الكوردية كما فعل العرب والفرس والترك . ولكن الإخلاص الحقيقي للفرد الكوردي لمبادئ الإسلام في بحر الشعوب العنصرية المحيطة به جعله في المرتبة الأخيرة ، مما دفع بالكورد اليوم إلى إلقاء اللوم على الإسلام دون وعي وإدراك للأمر .
وقد قدم الكورد خيرة العلماء من المؤرخين والفقهاء والفلاسفة والمترجمين واللغويين … تكاد لا تخلو مهنة وجدت في الإسلام إلا وكان وراء نجاحها فرد كوردي مساهم دون مقابل سوى مراضاة الله ، ورفع راية الإسلام ، مما جعله قواعد ارتكزت عليها الثقافة الإسلامية في هذا العصر . ولا نبالغ إذا قلنا : إن الكورد هم من حافظوا على الإسلام من الاضمحلال في مرحلة مهمة من تاريخه كانت بلاد المسلمين تتعرض فيها إلى أبشع حملة تستهدف الثقافة الإسلامية على يد الصليبيين .
فالنفور الذي أخذ نصيباً في نفوس الكورد تجاه الإسلام جاء نتيجة لإفرازات معظمها تقع في خانة استغلال الشعوب المسلمة له ، وتقديمه حسب ما تتطلبه مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فالعرب قدموا الإسلام على أنه لا يتجزأ عن العروبة ، والفرس قدموه على أنه لا ينقسم عن الأمة الفارسية ، والأتراك قدموه على أنهم وحدهم نصروا الإسلام ونشروه في أرجاء المعمورة . أما الكوردي المخلص لهذا الدين لم يقدمه على أنه المنقذ الوحيد أو الناصر له لأنه قدم التضحية للإسلام ولم يتخذه آلية أو أداة لفرض مشاريع خاصة به ، كما فعل غيره .
إذا كانت ردود الفعل المتأخرة على الإسلام قد شدت قليلاً إلا أن الشعب الكوردي سوف لن ينسى أن معظم الثوارت التي شهدتها كوردستان في أجزائها الأربعة ( تركيا � إيران � العراق – سوريا ) قام بها رجال الدين الشرفاء أمثال : الشيخ محمود الحفيد ، وشيخ سعيد بيران ، وشيخ رضا ، وشيخ احمد بارزاني وخليفته ملا مصطفى بارزاني وقاضي محمد وغيرهم من الذين استطاعوا التمييز بين الواجبات القومية والدينية ، وفهموا الإسلام على أنه الدين الذي يحق الحق ويبطل الباطل .
من هذه المفاهيم والمنطلقات ظهر الخطاب الحقيقي للشيخ العلامة الشهيد محمد معشوق خزنوي ، الذي ميز بين واجبات شعبه المضطهد ، وتدينه للإسلام الحنيف ، وقد دفعه فهمه هذا إلى إعلان نهجه الصحوي ، وعمل على نشره في كوردستان سوريا والعالم ، وما جاءت نشاطاته تلك إلا نتيجة حتمية للواقع الذي عرفه عن الدين ، وإدراكه تماماً أن المشاريع المطروحة عن الإسلام في أروقة الأنظمة القومية الاستبدادية ، والجمود الذي وضعه متفقهوهم لترسيخ الاستبداد ما هو إلا جزء لا يتجزأ من مشاريع تحوير الإسلام ، وقوميته وتشويهه ، وما يراه الشارع الإٍسلامي من شروح وتفاسير ما هي إلا لخدمة السلاطين ، ولتسلط أصحاب المزاجيات القمعية في بلاد المسلمين ، ولاحظ أن ثلة كبيرة من ( علماء ) الأمة يعملون عمداً على طمس السنة الحقيقية لأغراض مصلحية ، ويميلون بالناس إلى إسلام أعوج ، يبني الأجيال على التطرف والإرهاب ، بدلاً من التسامح والمساواة اللذين جاء بهما الإسلام ، وقال فيهما النبي ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . وقد دفعت هذه المفاهيم بالشيخ الشهيد إلى الوقوف في وجه موجة ( العلماء ) المميلين عن الصواب ، مما أصبح من كبار العلماء الذين وضعوا على ظهرهم هموم شعبهم المضطهد وحقيقة الإسلام السامي ، ليصبح بعد ذلك مميزاً عن بعض علماء ومفكري الكورد الذين تنكروا لأصلهم القومي ، وأصبحوا أبواقاً يضرب بهم المثل في شوارع الدول التي تنكر الحقوق المشروعة للشعب الكوردي ، هذه الحفنة من المتفقهين ( علماء البوق ) ساروا بأقدامهم على جماجم أطفال سينما عاموا وشهداء انتفاضة 12 آذار ، نسوا أو تناسوا حقوق قومهم عليهم ، وحق المظلوم الذي وصي به النبي في قوله ( انصروا دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب يوم القيامة ) .
وبعد فهمه التام لظاهرة المتفيقهين ، وإدانته لها من خلال نشاطاته وندواته وكتبه خلال عقد من الزمن قدم فيها الكثير لخدمة شعبه ودينه ، واستطاع إيصال رسالة شعبه المضطهد وما يعانيه من ظلم واضطهاد على أرضه التاريخية ، وكان يرافقه همه هذا إلى دول العالم في حقيبة سفره ، وإظهار احتجاجه مراراً وتكراراً في الندوات والمؤتمرات الإٍسلامية والعالمية .
نهجه الديني
إن صراعه المرير مع الطرق الصوفية ما هي إلا ثمرة من يقظته الفكرية التي جاءت لإدراكه التام أن الإسلام ينبذ الأضاليل ، بل ويضاد الخرافة التي دفع ويدفع الشعب الكوردي أثماناً باهظة جراء انتشاره في عموم كوردستان ، هذه الطرق التي دفعت بالكورد إلى نسيان قضيتهم العادلة ، وضياع قوميتهم والتمسك بالخرافة التي جاء بها رجال الدين المتفيقهون منذ الاحتلال العثماني إلى ظهور الأنظمة القومية الاستبدادية .
وقد فهم الشهيد أن الإسلام يعتمد على السبل العلمية في الحياة ، لذا بادر إلى بناء قواعد فكره على النهج التوحيدي الذي يدعو إلى التفكير ونبذ تعطيل العقل ، وقد تجلى منهجه هذا في كتابه ( ومضات في ظلال التوحيد ) حيث وضح فيها مواقفه العقائدية ، ورفضه للمناهج الزائفة والمبتدعة المبنية على الخرافة والتواكلية ومدح السلطان التي هي في الواقع ( دخيل على الإسلام ) وعرّف الصوفية على أنها مجموعة أوهام متراكمة وخزعبلات كلاسيكية وجدت بحكم مصالح زعماء الأتراك العثمانيين ، وبعض الأنظمة المستفيدة التي كانت وما زالت ترفض الديمقراطية وتنكر حقوق الإنسان .
فالدين في منهجه هو التمسك بــ( العروة الوثقى ) أي : الوسطية من ( الكتاب والسنة ) وهي الأساس العقائدي وحقيقة الدين الإسلامي … وعموماً الوسطية هي مقتضى سائر الشرائع السماوية .
واعتبر العلامة أن التواكلية جزء من الجاهلية .. ومرحلة بدائية لميثولوجيا عادات وتقاليد الشعوب القديمة … لذا كان نهجه الوسطي في الإسلام بوابة نحو عالمية دعواه الإصلاحية الدينية .
وقد دفع العلامة الشهيد العقل نحو المنطق في التعاملات البنيوية ، واتخذ المنهج العلمي في الإسلام لطرح مشروعه الإصلاحي ، الذي يضع في مقدمته ( قيمة الإنسان في الحياة .. وتأمين حقوقه وأمنه وراحته ورخائه ) ، وهي غاية الإنسان ووسيلة شريعة الإٍسلام وسائر الشرائع الدينية .
الأسس الفكرية في شخصيته
ترتكز قواعد التفكير عند الشيخ الشهيد على الأسس البنيوية الثلاثة :
1- نبذ التواكلية التي نخرت في حقيقة الإسلام من خلال متفيقهي الأنظمة الشوفينية � وكان هذا سبباً في اندلاع المواجهات الكلامية الحميمة بينه وبين أهل الطرق الصوفية ، ومنهم عائلته التي تعرف بالطريقة الخزنوية .
2- فهم الإسلام على أنه باب لحل القضية الكوردية في كوردستان سوريا وفي الأجزاء الأخرى .
3- علمانية التعامل في طرح المشاكل الإسلامية العالمية وحلها من خلال حوار الحضارات .
فالتواكلية والطريقة الصوفية كانت أداة لعرّابي الاحتلال العثماني في إسكات الأصوات الكوردية وغيرها من ترك العمل على بناء مجتمع خاص بهم ، والاعتماد في التشريع على الأوامر الصادر من السلطان العثماني الآمر الناهي .
وأدرك العلامة الشهيد أن الآمر الناهي لا يمكن أن يكون سلطاناً محتكراً .. ولا يمكن للإسلام تقبل هذه الخرافات ، وعرف من خلال منظاره الإسلامي أن التوكل يعني تعطيل العقل والفكر ، وقد وجد البديل له وهو الحقيقة التي نزل بها القرآن لإسعاد البشرية وأمر فيها الله أن يتعلم الإنسان ويعرف أحسن السبل لرعايته وحفظه . فنصوص القرآن تعرضت خلال مئات الأعوام إلى جمود نتيجة لمصالح خاصة ، ولا بد من تفسيرها بما يتناسب مع المرحلة والتطور الذي يشهده العالم اليوم .
وقد قارن الشيخ الشهيد الأطروحة الدينية بعد مراجعته كافة التفاسير والتحاليل مع ما سلف ، وأدرك أن التدين بالإسلام لا يعني الرضوخ لأوامر السلطان … والسكوت عن أخطائه .. والاستسلام للخرافات .. وترك العمل بتكون المجتمع .. لذا وجد أن الديمقراطية ليست بدعة كما يعتقد ويروج له متفيقهو الأنظمة الاستبدادية ، بل إن الديمقراطية هي ما جاء به القرآن من خلال الشورى التي هي شكل من أشكالها أو خطوط عريضة لها .
أما فهمه بأن الإسلام هو باب لحل القضية الكوردية جاءت بعد اقتناعه التام بفصل العمل السياسي عن المسيرة الدينية ، وترك الإسلام لتنمية المجتمعات وتقويمها أخلاقياً واجتماعياً ، إلى جانب فهم السياسية على أنها مجموعة قوانين ومستلزمات وضعية مكونة مما تتطلبه الظروف الحياتية ، وهذا هو فهمه لعلمانية التعامل في طرح المشاكل الإسلامية التي تكونت مع الحضارات بحكم المصالح الاستبدادية خلال العقود المنصرمة .
وقد قال يوماً على قبر الشهيد فرهاد أحد شهداء انتفاضة 12آذار :
يا فرهاد .. اسمح لي أن أقول لك ولأمثالك من شهداء هذه الأمة : نحن جميعاً � أنا وأنتم وكل أبناء شعبك يافرهاد � نحن شركاء في دمك … شركاء في هدر دمك ، لأننا نمنا حقبة طويلة … كلنا شركاء في دمك … كلنا أسلمناك .. كلنا خذلناك .. يوم لن سأل عنكم .. يوم لم سأل جلاديكم .. ولم نطلب محاكمتهم .. من السهل جداً أن يصدر مرسوم يفرج عن السجناء من السجون .. لكنه لا يمكن لكل مراسيم الدنيا أن تعيد حياة فرهاد ونيف وعشرين من شهدائنا ..
إننا عازمون على أن نحيي من أمتّموهم ، وعازمون على أن نبني ما هدمتموه ، وعازمون أن نعمر ما خربتموه ، وإن فرهاد وأمثاله سيكونون حياتنا التي ستنبت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة .
بالفعل كانت شخصيته نموذجية فريدة ، مما جعلها محببة إلى قلوب المتنورين المسلمين والمسيحيين والعلمانيين والمثقفين والسياسيين في أرجاء العالم .
هذه الشخصية المثيرة التي شغل بها الإعلام حينما تعرض إلى الاغتيال الظالم على يد الحقودين على الكورد والإسلام قد أخذت حقها على المستوى السياسي ، في الحين لم تأخذ حقها الكامل على مستوى نهجه وفكره وأطروحته في الإسلام .
سيبقى العلامة الشهيد محمد معشوق خزنوي رمزاً أبياً ترفرف راية نهجه فوق بيوتات كوردستان .
المراجع :
– كتاب ( ومضات في ظلال التوحيد ) .
– نشرة : ( الدكتور محمد معشوق الخزنوي .. منهجه وفكره ) إعداد لجنة أصدقاء الشيخ .
– كتاب ( الانتفاضة الثانية..في وقائع اعتقال واستشهاد الدكتور محمد معشوق خزنوي ) للباحث : دلوفان .م.إبراهيم .
– مقال للكاتب بعنوان ( البنية السيكولوجية في فكر شخصية الشهيد محمد معشوق الخزنوي ) نشرت في جريدة ( يكيتي ) عددها ( 157 ) أيار 2008 .
– بعض الأبحاث والمقالات حول العلامة الشهيد في مواقع الإنترنت .
المقالات المشابهة
الشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي.. نصير الحق وصوت الحرية
تسعة عشر عاماً على اختطاف واغتيال شيخ الشهداء معشوق الخزنوي
في ذكرى انتفاضة اذار 2004 لابد من استذكار الشيخ الشهيد، الخزنوي المعشوق!