Mashuq Foundation

for Dialogue Tolerance and Religious Renewal

ابراهيم اليوسف – قراءة في مسيرة شيخ الشهداء

الشيخ محمد معشوق الخزنوي

الكاتب إبراهيم اليوسف

ولد محمد معشوق الخزنوي في الخامس والعشرين من ديسمبر من العام 1958، في أسرة دينية معروفة على المستويين الكردستاني والإسلامي، لأب هو عزالدين الخزنوي شيخ الطريقة النقشبندية، وابن مؤسس الطريقة الخزنوية الشيخ أحمد الخزنوي الذي أطبقت شهرة أسرته الآفاق. وغدت بلدة تلّ معروف التي استقرت فيها الأسرة بعد انتقالهم إليها من قريتهم خزنة أحد أهم المراكز المعرفية الدينية في منطقة الجزيرة، وسوريا، إلى جانب جارتها قرية حلوة التي يقيم فيها آل حقي تكيّتهم الموازية لها.

درس معشوق الفتى العلم على يدي معلمه الأول والده الشيخ عزالدين. بالإضافة إلى العلامة المربي الشهير ملا عبدالله قرطميني، معلمه اليومي، إلى جانب دراسته الدراسة النظامية في المعهد الشرعي في معهد العلوم الشرعية في باب الجابية في دمشق. ومن ثم في المدينة المنورة، لينال شهادة الليسانس في العلوم الشرعية ثم شهادة الدكتوراه من الباكستان. مشاركاً في مؤتمرات دولية عديدة، في الرياض، أو في فيينا، وغيرها، ومترئساً الكثير من الندوات في أوروبا والعالم.

تأثير غياب الشيخ معشوق على مجتمعه وشعبه واضح، فقد كان إخلاء الساحة الكردية السورية من قياداتها مقصوداً، حتى تترك الناس بلا زعامات، ودون أن يرسم لها أحد سياساتها، خاصة إن كان من أصحاب المكانة الجليلة والشعبية الساحقة

الخزنوي المجدد

كانت كلمة التجديد تدغدغ مشاعر الشيخ معشوق، منذ بداية تبلور وعيه. ولعلّ سبب ولعه بالتجديد يعود إلى أمرين، أوّلهما أن ثقافته قد تطعمت بثقافة أخرى خارج “التكية” التي أسّسها جده، بل أيضا خارج إطار المعهد الشرعي الذي أسسه جده في العام 1920، وتخرّج منه مئات الآلاف من طلاب العلم من داخل سوريا والعالمين العربي والإسلامي، وحتى الغربي “إذ طالما درس في المعهد بعض الطلبة الأوروبيين”.

غير أن الشيخ الشاب اصطدم بالمفاهيم التقليدية التي كانت تهيمن على المناهج الدراسية في المعهد الشرعي الذي درس فيه اثني عشر عاماً، وتعرض للإغلاق أكثر من مرة، على أيدي أجهزة أمن النظام السوري، غير أن السلطات السورية كانت تضطر لفتحه نتيجة المكانة التي كان آل الخزنوي يحتلونها في مجتمعهم، قبل أن يقوم النظام باستمالة بعض أبناء القرية، عبر الفرقة الحزبية البعثية التي افتتحوها في بلدتهم، وانضم إليها المختلفون مع آل الخزنوي، فقط ليتاح لهم مناوأة آل الخزنوي. وكانوا غالباً ممّن وزّعت عليهم أراضي الخزنوية نتيجة قانون الإصلاح الزراعي. وكان ذلك أول الخروقات التي حدثت في هيبة الأسرة، وفي محيطهم الخاص، وراحت القرية التي فرضت عليها بعض الطقوس تتحدى واقعها.

في تلك الفترة، نشأ انشقاق فكري كبير بين الشيخ محمد معشوق المرشح لخلافة أبيه، ووالده الذي راح يعنى بأخيه غير الشقيق محمد، الأقل ثقافة، قياساً إليه، كما كان يرى، وهو ما أشعره بعمق الألم الذي تعرض له. الأمر الذي دفع الشيخ للسفر إلى خارج البلدة، ليستقر في مدينة إدلب. عمل مدرساً في ثانويتها الشرعية، وإماماً، وخطيباً لمساجدها، حتى العام 1992 عام دعواه التجديدية، الذي قرر فيه أن يستقر في مدينة القامشلي بين معارف الأسرة وذويه، وهو أكثر حماساً نتيجة ردود فعله تجاه الظلم الذي لقيه في تكيّة أبيه، لاسيما أن بعض الذين اخترقوا الطريقة التي استلمت أسرته مشيختها، باتوا يؤلبون أباه عليه، ومن ثم أخاه غير الشقيق الذي سيتوفّى وكامل من معه من أسرته، في تلك الرحلة، بعد أشهر قليلة من اغتيال أخيه، في حادث سير في – الرياض- ينجو منه السائق السوري، وهو المقرب – كما أشيع- ممن اتهموا باختطاف الشيخ معشوق.

استطاع الشيخ معشوق الخزنوي أن يكوّن معادلة لرؤاه. فقد عني بقوميّته ككردي، كما عني بما هو سوري. وقد تجلى ذلك في سلوكه اليومي، كرجل دين إنساني. وصرح في إحدى مناسباته العائلية التي حضرها العديد من الشخصيات الاجتماعية البارزة محلياً وسورياً، ومن بينهم صديقه الباحث محمد حبش: إن اسم المدينة هو”قامشلو” والقامشلية” و”قامشلي” وربما “زالين” بمعنى أنها لأبنائها من الكرد والعرب والمسلمين والمسيحيين، وكان لهذه العبارة، بل لهذا الحفل الذي دعا إليه الفسيفساء السورية وقعه الكبير، لا سيما أنه جاء بعد محطة الثاني عشر من مارس الشهيرة التي أراد النظام خلالها ضرب المكونات المحلية ببعضها بعضاً.

انضم الشيخ إلى بعض أوائل مؤسسات المجتمع المدني التي وجدت، كمنظمة ماف، ورابطة الكتاب والصحافيين الكرد في سوريا، مشجعاً تأسيسها. وقد صدر له كتاب بعنوان “ومضات في ظلال التوحيد”. وله العديد من المخطوطات التي لم تطبع بعد، وقد تميزت عبارته بالرشاقة وجمالية الصياغة.

لقد كان أحد أهم الخطباء المفوّهين ذوي الحضور. وكان رحيله خسارة كبرى لا سيما أنه كان بصدد إعداد وطباعة مؤلفاته التي تدعو إلى الاعتدال، وبلغة مشحونة بالدفء والتأثير، ما جعلني أكتب عنه، في واحد من مقالاتي عنه “إنه أحد هؤلاء الذين يولدون كل مئة عام مرة”.

كان طبيعياً، أن يفكر الشيخ محمد معشوق بالتوجه إلى بيئة أخرى مختلفة عن بيئة طريقة أبيه وجده وشقيقه وأعمامه، بعد أن نفض كلتا يديه من مشروع حلمه في أن يكون له دوره ومكانته في تكيّة أبيه.

وبعد إحساسه المخيب المرير باختراقها من قبل بعض الغرباء، ومنهم من سيتم الاستعانة بهم -بحسب رواية السلطة- في خطفه، ومن ثم اغتياله. وهو ما لا يمكن أن ينفذ إلا تحت رعاية مخابرات النظام السوري.

أخذ يجاهر بآرائه التجديدية التي راحت تثير حفيظة الكثيرين من التقليديين، ومنهم شقيقه الذي ورث المشيخة عن أبيه، بموجب وصية والده -وكان والدي أحد من احتفظوا بالوصية من والده ـ وقرأوها في يوم وفاة والده في العام 1994، على الآلاف من مشيعي أبيه إلى مثواه الأخير.

الشيخ الشاب اصطدم مرارا بالمفاهيم التقليدية التي كانت تهيمن على المناهج الدراسية في المعهد الشرعي الذي أسسه الخزنوي الأب، صحيح أنه تعرض للإغلاق أكثر من مرة، على أيدي أجهزة أمن النظام السوري، غير أن السلطات كانت تضطر لفتحه نتيجة المكانة التي كان آل الخزنوي يحتلونها في مجتمعهم

وقد ظهرت للشيخ محمد معشوق مواقف مائزة من أهله الكرد، لا سيما بعيد انتفاضة مارس 2004، عندما شهد له بلعب دور دبلوماسي من خلال معارفه من الوجوه الكردية وغير الكردية في دمشق، بعد عمله مع صديقه حبش والشيخ محمود كفتارو وآخرين، كي يؤثروا في مركز القرار، محاولين مع سواهم في إطلاق سراح المئات من الشباب الكردي الذي تم اعتقاله على مبدأ الهوية، بُعيد أحداث ملعب قامشلي، بين فريقي الجهاد والفتوة، عندما أمر محافظ الحسكة المدعو سليم كبول بإطلاق النار على المتظاهرين الكرد، ما أدّى آنذاك إلى مقتل العشرات من الشباب الكردي، وجرح المئات بالرصاص الحي الذي أطلق عليهم، وتبين في ما بعد أن ذلك تم بأوامر من وزير الداخلية علي حمود ورئيس النظام بشار الأسد.

نوروز الخزنوي

أخذ الشيخ الخزنوي، وعلى خلاف أكثرية رجال الدين، خاصة مشيخة أسرته، يشارك أهله الكرد في أعياد النوروز، كما حدث في نوروز 2005 قبيل اختطافه بأسابيع. وبدأ يلقي خطبه باللغة الكردية الأم.

بل إنه استجاب لدعوة لإحياء الذكرى السنوية لأحد شهداء الانتفاضة الكردية، وهو فرهاد محمد علي صبري، ألقى حينها كلمة نارية ألهبت المشاعر، حتى بات الآلاف من الشباب الكردي يستظهرون مفرداتها.

جاء ذلك بالتوازي مع كسره أحد أهم الحواجز التي حرص النظام السوري على وضعها، وهي تنظيم اللقاءات بين عدد من المثقفين والناشطين وقادة الحركة السياسية الكردية وممثلي السفارات الأجنبية في سوريا، في مكتبه -مكتب إحياء السنة- الذي افتتحه، وسط المدينة، كفرع لمؤسسة الدكتور حبش. وهوما ألّب عليه السلطات الأمنية التي جعلته تحت مراقبتها الدائمة.

لقاؤه في أوروبا ببعض وجوه المعارضة في رحلته الأخيرة إليها، جعله يتحسس أن رأسه بات مطلوباً، ما أوجب عليه أن يتخذ التدابير المطلوبة ضمن مدينته، غير أنه لم يفعل.

أثناء أسفاره إلى دمشق، كان ينطلق بسيارته وحيداً، دون أيّ مرافقة، بالرغم من أن بعض مقرّبيه كانوا قد نصحوه، دون جدوى، بل بالرغم من أنه تعرض للاستدراج من قبل بعضهم في زيّ مريدين وفقهاء في تكيّة أبيه خلال الأسبوع السابق على خطفه، غير أنه كان قد أوقع به في المرة الأخيرة.

الخزنوي يلقب بين الكرد بـ”شيخ الشهداء”، ويغدو هذا مفهوما حين نعلم أن مسجده كان يعج حتى بالذين لم يسبق لهم أن قصدوا أماكن العبادة

معشوق الحاضر في الوعي

انقطع التواصل بمعشوق الخزنوي في الـ10 من مايو من العام 2005، في دمشق، كي يتم الكشف عن مكان دفنه في مقبرة مدينة دير الزور في الأول من يونيو من نفس العام، وقد فسر بعض المحللين ذلك بأنه محاولة لإعادة إشعال الفتنة بين الكرد وأبناء دير الزور، لا سيما أن وزير الداخلية غازي كنعان كان قد أعلن أن من اختطفوا الشيخ هم من أتباع تكيّة أبيه، كي يتم اتهام شقيقه الشيخ، وهو ما عرضه التلفزيون السوري، وقد أصدر شقيقه الشيخ محمد الخزنوي بياناً شخصياً باسم “لجنة أصدقاء الخزنوي” يعلن براءته من الجريمة التي نسبت إليه، على نحو غير مباشر، لضرب العائلة الخزنوية بعضها ببعض.

لقد مرت إحدى عشرة سنة على رحيل الشيخ محمد معشوق الخزنوي، بيد أن كثيرين من الشباب الذين طالما التفوا حوله، لم يكتفوا بتعليق صوره في بعض المظاهرات التي كانوا يشاركون فيها، بل إن بعض العبارات التي قالها في هذه المناسبة أو تلك، كانت ترفع على الدوام على لافتات الشباب الكردي، ومن بينها عبارة “ابصقوا في وجوه جلاديكم” التي استلهمها من نص شعري ألقي أمامه، والذي راح يستعيده السياسي الكردي الراحل مشعل التمو في العام 2011، في إحدى كلماته المؤثرة التي دعت النظام السوري إلى أن يؤلب عليه أزلامه ويصفّيه كي يكون مصير كليهما مجهولاً حتى الآن.

لايزال الكرد يستذكرون شيخ الشهداء في الأول من يونيو من كل عام داخل الوطن وفي الخارج، نظراً لجرأته وشجاعته وغيرته وموقفه ضد آلة الاستبداد، وقد خصّصت لجنة أصدقاء الخزنوي- جائزة له- راحت أسرته تتولى شؤون إدارتها، بالإضافة إلى بعض المقربين من الأسرة.

تأثير غياب الشيخ معشوق على مجتمعه وشعبه واضح، فقد كان إخلاء الساحة الكردية السورية من قياداتها مقصوداً، حتى تترك الناس بلا زعامات، ودون أن يرسم لها أحد سياساتها، خاصة إن كان من أصحاب المكانة الجليلة والشعبية الساحقة.

ولد محمد معشوق الخزنوي في الخامس والعشرين من ديسمبر من العام 1958، في أسرة دينية معروفة على المستويين الكردستاني والإسلامي، لأب هو عزالدين الخزنوي شيخ الطريقة النقشبندية، وابن مؤسس الطريقة الخزنوية الشيخ أحمد الخزنوي الذي أطبقت شهرة أسرته الآفاق. وغدت بلدة تلّ معروف التي استقرت فيها الأسرة بعد انتقالهم إليها من قريتهم خزنة أحد أهم المراكز المعرفية الدينية في منطقة الجزيرة، وسوريا، إلى جانب جارتها قرية حلوة التي يقيم فيها آل حقي تكيّتهم الموازية لها.

درس معشوق الفتى العلم على يدي معلمه الأول والده الشيخ عزالدين. بالإضافة إلى العلامة المربي الشهير ملا عبدالله قرطميني، معلمه اليومي، إلى جانب دراسته الدراسة النظامية في المعهد الشرعي في معهد العلوم الشرعية في باب الجابية في دمشق. ومن ثم في المدينة المنورة، لينال شهادة الليسانس في العلوم الشرعية ثم شهادة الدكتوراه من الباكستان. مشاركاً في مؤتمرات دولية عديدة، في الرياض، أو في فيينا، وغيرها، ومترئساً الكثير من الندوات في أوروبا والعالم.

تأثير غياب الشيخ معشوق على مجتمعه وشعبه واضح، فقد كان إخلاء الساحة الكردية السورية من قياداتها مقصوداً، حتى تترك الناس بلا زعامات، ودون أن يرسم لها أحد سياساتها، خاصة إن كان من أصحاب المكانة الجليلة والشعبية الساحقة

الخزنوي المجدد

كانت كلمة التجديد تدغدغ مشاعر الشيخ معشوق، منذ بداية تبلور وعيه. ولعلّ سبب ولعه بالتجديد يعود إلى أمرين، أوّلهما أن ثقافته قد تطعمت بثقافة أخرى خارج “التكية” التي أسّسها جده، بل أيضا خارج إطار المعهد الشرعي الذي أسسه جده في العام 1920، وتخرّج منه مئات الآلاف من طلاب العلم من داخل سوريا والعالمين العربي والإسلامي، وحتى الغربي “إذ طالما درس في المعهد بعض الطلبة الأوروبيين”.

غير أن الشيخ الشاب اصطدم بالمفاهيم التقليدية التي كانت تهيمن على المناهج الدراسية في المعهد الشرعي الذي درس فيه اثني عشر عاماً، وتعرض للإغلاق أكثر من مرة، على أيدي أجهزة أمن النظام السوري، غير أن السلطات السورية كانت تضطر لفتحه نتيجة المكانة التي كان آل الخزنوي يحتلونها في مجتمعهم، قبل أن يقوم النظام باستمالة بعض أبناء القرية، عبر الفرقة الحزبية البعثية التي افتتحوها في بلدتهم، وانضم إليها المختلفون مع آل الخزنوي، فقط ليتاح لهم مناوأة آل الخزنوي. وكانوا غالباً ممّن وزّعت عليهم أراضي الخزنوية نتيجة قانون الإصلاح الزراعي. وكان ذلك أول الخروقات التي حدثت في هيبة الأسرة، وفي محيطهم الخاص، وراحت القرية التي فرضت عليها بعض الطقوس تتحدى واقعها.

في تلك الفترة، نشأ انشقاق فكري كبير بين الشيخ محمد معشوق المرشح لخلافة أبيه، ووالده الذي راح يعنى بأخيه غير الشقيق محمد، الأقل ثقافة، قياساً إليه، كما كان يرى، وهو ما أشعره بعمق الألم الذي تعرض له. الأمر الذي دفع الشيخ للسفر إلى خارج البلدة، ليستقر في مدينة إدلب. عمل مدرساً في ثانويتها الشرعية، وإماماً، وخطيباً لمساجدها، حتى العام 1992 عام دعواه التجديدية، الذي قرر فيه أن يستقر في مدينة القامشلي بين معارف الأسرة وذويه، وهو أكثر حماساً نتيجة ردود فعله تجاه الظلم الذي لقيه في تكيّة أبيه، لاسيما أن بعض الذين اخترقوا الطريقة التي استلمت أسرته مشيختها، باتوا يؤلبون أباه عليه، ومن ثم أخاه غير الشقيق الذي سيتوفّى وكامل من معه من أسرته، في تلك الرحلة، بعد أشهر قليلة من اغتيال أخيه، في حادث سير في – الرياض- ينجو منه السائق السوري، وهو المقرب – كما أشيع- ممن اتهموا باختطاف الشيخ معشوق.

استطاع الشيخ معشوق الخزنوي أن يكوّن معادلة لرؤاه. فقد عني بقوميّته ككردي، كما عني بما هو سوري. وقد تجلى ذلك في سلوكه اليومي، كرجل دين إنساني. وصرح في إحدى مناسباته العائلية التي حضرها العديد من الشخصيات الاجتماعية البارزة محلياً وسورياً، ومن بينهم صديقه الباحث محمد حبش: إن اسم المدينة هو”قامشلو” والقامشلية” و”قامشلي” وربما “زالين” بمعنى أنها لأبنائها من الكرد والعرب والمسلمين والمسيحيين، وكان لهذه العبارة، بل لهذا الحفل الذي دعا إليه الفسيفساء السورية وقعه الكبير، لا سيما أنه جاء بعد محطة الثاني عشر من مارس الشهيرة التي أراد النظام خلالها ضرب المكونات المحلية ببعضها بعضاً.

انضم الشيخ إلى بعض أوائل مؤسسات المجتمع المدني التي وجدت، كمنظمة ماف، ورابطة الكتاب والصحافيين الكرد في سوريا، مشجعاً تأسيسها. وقد صدر له كتاب بعنوان “ومضات في ظلال التوحيد”. وله العديد من المخطوطات التي لم تطبع بعد، وقد تميزت عبارته بالرشاقة وجمالية الصياغة.

لقد كان أحد أهم الخطباء المفوّهين ذوي الحضور. وكان رحيله خسارة كبرى لا سيما أنه كان بصدد إعداد وطباعة مؤلفاته التي تدعو إلى الاعتدال، وبلغة مشحونة بالدفء والتأثير، ما جعلني أكتب عنه، في واحد من مقالاتي عنه “إنه أحد هؤلاء الذين يولدون كل مئة عام مرة”.

كان طبيعياً، أن يفكر الشيخ محمد معشوق بالتوجه إلى بيئة أخرى مختلفة عن بيئة طريقة أبيه وجده وشقيقه وأعمامه، بعد أن نفض كلتا يديه من مشروع حلمه في أن يكون له دوره ومكانته في تكيّة أبيه.

وبعد إحساسه المخيب المرير باختراقها من قبل بعض الغرباء، ومنهم من سيتم الاستعانة بهم -بحسب رواية السلطة- في خطفه، ومن ثم اغتياله. وهو ما لا يمكن أن ينفذ إلا تحت رعاية مخابرات النظام السوري.

أخذ يجاهر بآرائه التجديدية التي راحت تثير حفيظة الكثيرين من التقليديين، ومنهم شقيقه الذي ورث المشيخة عن أبيه، بموجب وصية والده -وكان والدي أحد من احتفظوا بالوصية من والده ـ وقرأوها في يوم وفاة والده في العام 1994، على الآلاف من مشيعي أبيه إلى مثواه الأخير.

الشيخ الشاب اصطدم مرارا بالمفاهيم التقليدية التي كانت تهيمن على المناهج الدراسية في المعهد الشرعي الذي أسسه الخزنوي الأب، صحيح أنه تعرض للإغلاق أكثر من مرة، على أيدي أجهزة أمن النظام السوري، غير أن السلطات كانت تضطر لفتحه نتيجة المكانة التي كان آل الخزنوي يحتلونها في مجتمعهم

وقد ظهرت للشيخ محمد معشوق مواقف مائزة من أهله الكرد، لا سيما بعيد انتفاضة مارس 2004، عندما شهد له بلعب دور دبلوماسي من خلال معارفه من الوجوه الكردية وغير الكردية في دمشق، بعد عمله مع صديقه حبش والشيخ محمود كفتارو وآخرين، كي يؤثروا في مركز القرار، محاولين مع سواهم في إطلاق سراح المئات من الشباب الكردي الذي تم اعتقاله على مبدأ الهوية، بُعيد أحداث ملعب قامشلي، بين فريقي الجهاد والفتوة، عندما أمر محافظ الحسكة المدعو سليم كبول بإطلاق النار على المتظاهرين الكرد، ما أدّى آنذاك إلى مقتل العشرات من الشباب الكردي، وجرح المئات بالرصاص الحي الذي أطلق عليهم، وتبين في ما بعد أن ذلك تم بأوامر من وزير الداخلية علي حمود ورئيس النظام بشار الأسد.

نوروز الخزنوي

أخذ الشيخ الخزنوي، وعلى خلاف أكثرية رجال الدين، خاصة مشيخة أسرته، يشارك أهله الكرد في أعياد النوروز، كما حدث في نوروز 2005 قبيل اختطافه بأسابيع. وبدأ يلقي خطبه باللغة الكردية الأم.

بل إنه استجاب لدعوة لإحياء الذكرى السنوية لأحد شهداء الانتفاضة الكردية، وهو فرهاد محمد علي صبري، ألقى حينها كلمة نارية ألهبت المشاعر، حتى بات الآلاف من الشباب الكردي يستظهرون مفرداتها.

جاء ذلك بالتوازي مع كسره أحد أهم الحواجز التي حرص النظام السوري على وضعها، وهي تنظيم اللقاءات بين عدد من المثقفين والناشطين وقادة الحركة السياسية الكردية وممثلي السفارات الأجنبية في سوريا، في مكتبه -مكتب إحياء السنة- الذي افتتحه، وسط المدينة، كفرع لمؤسسة الدكتور حبش. وهوما ألّب عليه السلطات الأمنية التي جعلته تحت مراقبتها الدائمة.

لقاؤه في أوروبا ببعض وجوه المعارضة في رحلته الأخيرة إليها، جعله يتحسس أن رأسه بات مطلوباً، ما أوجب عليه أن يتخذ التدابير المطلوبة ضمن مدينته، غير أنه لم يفعل.

أثناء أسفاره إلى دمشق، كان ينطلق بسيارته وحيداً، دون أيّ مرافقة، بالرغم من أن بعض مقرّبيه كانوا قد نصحوه، دون جدوى، بل بالرغم من أنه تعرض للاستدراج من قبل بعضهم في زيّ مريدين وفقهاء في تكيّة أبيه خلال الأسبوع السابق على خطفه، غير أنه كان قد أوقع به في المرة الأخيرة.

الخزنوي يلقب بين الكرد بـ”شيخ الشهداء”، ويغدو هذا مفهوما حين نعلم أن مسجده كان يعج حتى بالذين لم يسبق لهم أن قصدوا أماكن العبادة

معشوق الحاضر في الوعي

انقطع التواصل بمعشوق الخزنوي في الـ10 من مايو من العام 2005، في دمشق، كي يتم الكشف عن مكان دفنه في مقبرة مدينة دير الزور في الأول من يونيو من نفس العام، وقد فسر بعض المحللين ذلك بأنه محاولة لإعادة إشعال الفتنة بين الكرد وأبناء دير الزور، لا سيما أن وزير الداخلية غازي كنعان كان قد أعلن أن من اختطفوا الشيخ هم من أتباع تكيّة أبيه، كي يتم اتهام شقيقه الشيخ، وهو ما عرضه التلفزيون السوري، وقد أصدر شقيقه الشيخ محمد الخزنوي بياناً شخصياً باسم “لجنة أصدقاء الخزنوي” يعلن براءته من الجريمة التي نسبت إليه، على نحو غير مباشر، لضرب العائلة الخزنوية بعضها ببعض.

لقد مرت إحدى عشرة سنة على رحيل الشيخ محمد معشوق الخزنوي، بيد أن كثيرين من الشباب الذين طالما التفوا حوله، لم يكتفوا بتعليق صوره في بعض المظاهرات التي كانوا يشاركون فيها، بل إن بعض العبارات التي قالها في هذه المناسبة أو تلك، كانت ترفع على الدوام على لافتات الشباب الكردي، ومن بينها عبارة “ابصقوا في وجوه جلاديكم” التي استلهمها من نص شعري ألقي أمامه، والذي راح يستعيده السياسي الكردي الراحل مشعل التمو في العام 2011، في إحدى كلماته المؤثرة التي دعت النظام السوري إلى أن يؤلب عليه أزلامه ويصفّيه كي يكون مصير كليهما مجهولاً حتى الآن.

لايزال الكرد يستذكرون شيخ الشهداء في الأول من يونيو من كل عام داخل الوطن وفي الخارج، نظراً لجرأته وشجاعته وغيرته وموقفه ضد آلة الاستبداد، وقد خصّصت لجنة أصدقاء الخزنوي- جائزة له- راحت أسرته تتولى شؤون إدارتها، بالإضافة إلى بعض المقربين من الأسرة.

تأثير غياب الشيخ معشوق على مجتمعه وشعبه واضح، فقد كان إخلاء الساحة الكردية السورية من قياداتها مقصوداً، حتى تترك الناس بلا زعامات، ودون أن يرسم لها أحد سياساتها، خاصة إن كان من أصحاب المكانة الجليلة والشعبية الساحقة.

About Author